السلامة المرورية غائبة عن وعي الحكومة رغم إدراجها في البيان الوزاري
طرقات لبنان تحولت إلى مقابر: الأسباب واضحة والخطط غائبة
روي أبو زيد - "نداء الوطن"
ارتفعت أعداد حوادث السير بشكل كبير في السنوات الأخيرة. الأسباب واضحة والخطط غائبة، أما النتيجة فواحدة: ازدياد أعداد القتلى والجرحى والمشوّهين وذوي الاحتياجات الخاصة.
تحصد القيادة العشوائيّة أرواح الشباب، والخطير في الموضوع الاعتياد على سماع مثل هذا النوع من الأخبار القاتمة، من دون التوقّف ولو للحظة أنّنا قد نتصدّر عنوان الخبر التالي. فإلى متى سيبقى ملف السلامة المروريّة سقيماً؟ وهل من حجر زاوية لبناء خطط وطنيّة شاملة وفعّالة؟
قانون السّير واتّفاق الطائف
يلفت الخبير الدّولي في السلامة المروريّة ورئيس بلدية شتورا ميشال مطران لـ "نداء الوطن" إلى أنّ "نسبة الوفيات في لبنان تصل إلى حوالى 22 شخصاً لكلّ مئة ألف نسمة وهي نسبة مرتفعة عالمياً"، معتبراً أنّ "الأسباب الرئيسية للحوادث تكمن باستخدام السائقين للخليوي أثناء القيادة، فضلًا عن ضعف البنية التحتية وعدم تأهيل السائقين كما يجب كي يتمكّنوا من القيادة بوعي وإدراك".
ويؤكد مطران أنّ "الأسباب الرئيسية للوفاة هي السرعة وعدم استعمال حزام الأمان"، موضحاً أنّ "ارتفاع نسبة القتلى في الحوادث يعود إلى ازدياد عوامل الخطر في منظومة السلامة المروريّة في ظلّ غياب ثقافة الردع والمحاسبة التي تحمي المجتمعات، وعدم وضع استراتيجية وطنية واضحة سببها غياب الأولوية لدى السياسيّين في معالجة هذا الملف، وعدم تخصيص الموازنات الكافية للتنفيذ".
ويشدد مطران على ضرورة "تطبيق قانون السير الحالي قبل تعديله، خصوصاً أنّه لم يُطبَّق لتاريخه وحاله كحال اتّفاق الطائف".
ويرى أنّ "الوقت قد حان لوضع استراتيجيّة خماسيّة أو عشريّة للنقل، تدرس التوجّه العام لحجم النقل وكثافته في السنوات الخمس أو العشر المقبلة".
وعن اعتماد معايير السلامة المروريّة في منطقة شتورا، يشير مطران إلى أنّ "هذا الموضوع هو من صلب خطّة عمله في البلديّة"، كاشفاً عن "سعيه إلى تنفيذ مشروع ضخم بدعم دوليّ يقضي بتحويل شتورا إلى تجربة رائدة دوليّاً في السلامة المروريّة". يضيف أنّ "طريق ضهر البيدر يصبّ في شتورا كشريان نقل أساسيّ لكنّه يخرج عن صلاحيّة البلديّة، لكنّنا سنقدّم الاقتراحات تقنيّاً لوزارة الأشغال وسنعمل بالتعاون مع اتّحادات البلديّات كي نضع معايير وأسساً إصلاحيّة لهذا الطريق الدولي".
الأب مجدي علاوي ضحيّة جديدة
تعرّض خادم جمعيّة "سعادة السما" الأب مجدي علاوي الشهر الفائت لحادث صدم في جبيل، وذلك خلال ممارسته رياضة الجري برفقة مجموعة من العاملين في الجمعيّة. وكانت سيارة من نوع "جولف كار" صدمته أوّلًا بعد فقدان سائقها السيطرة عليها بسبب السرعة، لتقوم سيّارة أخرى قادمة من الاتّجاه المعاكس بصدمه أيضاً. وتم نقل الأب علاوي إلى المستشفى بحال حرجة، إذ تعرّض لإصابات خطرة في ساقيه ووركه، إضافةً إلى جروح في الوجه والذّقن.
وتشير لارا سليمان نون الإعلاميّة المقرّبة منه في حديث لـ "نداء الوطن، إلى أنّ " الأب علاوي أبعد شابًّا كان بقربه قبل حادث الصدم كي يتلقّى الضربة لوحده"، كاشفةً أنّه "أجريت له عمليات جراحيّة عدة وسيخضع لأربع أخرى كي يستكمل رحلة علاجه".
وإذ تكشف نون أنّ "الأب علاوي أسقط حقّه المدني عن السائقَين"، تؤكد أنهما لم يزوراه أو يسألا عنه حتى الآن. وتتساءل: "ألا يجب أن يتكفّلا بعلاجه خصوصاً أنّ درب الجلجلة الاستشفائيّة طويل؟ خصوصاً أنه سيبقى شهراً إضافيّاً في المستشفى وسط جلسات مكثّفة لإعادة تأهيله على الصّعد كافة". وتكشف أنّ "الأب علاوي مصمّمٌ على إنشاء مركز لإعادة تأهيل الفقراء بعد شفائه، خصوصاً أنه "يستعطي الطبابة"، مقتبسة عبارة منه بعد استيقاظه من الغيبوبة: "صار الفقير كتيرة عليه الحياة... بس الفقير ما لازم يموت".
وتتساءل نون: "ما هو سبب غياب الجهات المعنيّة؟ وإلى متى سنحتمل الذلّ والمهانة في بلد أصبح فيه الموت رخيصاً لهذه الدّرجة؟"، مضيفةً: "هذه هي قصّة العدالة الناقصة و"الزعران" المختبئين في بيوت الأكابر".
وتتسبّب الإصابات الناجمة عن هذه الحوادث بخسائر اقتصادية فادحة بسبب كلفة العلاج المرتفعة وفقدان إنتاجيّة الأشخاص الّذين يلقون حتفهم أو يُصابون بالعجز جرّاء إصاباتهم. وتكلّف حوادث المرور معظم البلدان حوالى 3 % من ناتجها المحلّي الإجمالي.
ابراهيم: واقع مأسوي في الصّيف
يشير رئيس الأكاديمية اللبنانية الدوليّة للسلامة المروريّة كامل ابراهيم لـ"نداء الوطن" إلى أنّ "نسبة الوفيات في لبنان بسبب حوادث السير قد ارتفعت في العامين الأخيرين بعد عودة الحياة إلى طبيعتها"، لافتًا إلى "مقتل 450 شخصاً في العام 2024 و150 في الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي".
ويقول ابراهيم إنّ "أعداد الحوادث المميتة لم تتدنَّ خلال الحرب على الرّغم من انخفاض عدّاد التنقّل جرّاء الوضع الأمني"، مردفًا أنّها ترتفع في محافظة الجنوب بشكل كبير".
ويشدّد على أنّ "نسبة الحوادث المميتة ارتفعت في لبنان إزاء التنقّل غير الآمن في ظلّ غياب هيبة تطبيق القانون، ما تسبّب بالفوضى في السنوات الأربع الأخيرة بشكل كبير، ناهيك عن قيمة الغرامات المنخفضة وغياب الطرقات الآمنة "، موضحاً أنّ "طرقاتنا باتت ضعيفة جداً وسط غياب الإنارة فيها، وانعدام الممرات الآمنة للمشاة".
ويرى ابراهيم أنّ "المشكلة في لبنان تكمن بضعف العناصر الأساسية التي تؤمّن السلامة المرورية، بدءاً من غياب المعاينة الميكانيكية في الأعوام المنصرمة واستبدالها بالمعاينة الذاتية. إذ بات من غير المعلوم إن كانت المركبات والشاحنات تستوفي شروط السلامة المرورية. أما السبب الثاني فهو السير العشوائي للدرجات النارية إضافةً إلى التوجّه نحو وسائل نقل أكثر خطراً وأقلّ تكلفةً كالباصات والتوك توك وغيرها".
وإذ يعتبر ابراهيم أنّ "مقاربة معالجة حوادث السير في لبنان تقليديّة وغير فعّالة ما يجعلنا نتخبّط في واقع مأسوي، سيشتد خلال الصيف جرّاء التنقّل والسهر"، يلفت إلى أنّ "الحكومة الحالية قد ذكرت موضوع السلامة المروريّة في بيانها الوزاري، لكن وبعد مرور مئة يوم لم نشهد أي مبادرات إصلاحيّة حقيقيّة تفرز قراراً سياسيّاً للمعالجة".
ويلحظ ابراهيم أنّ الحلول تبدأ بـ"اعتماد رؤية شاملة للأزمة، فضلًا عن رسم تشخيص واضح للأسباب المؤديّة إلى موت الناس على الطرقات. فتطبيق قانون السلامة المروريّة يتطلّب تفعيل دور المجلس الوطني للسلامة المرورية الذي يرأسه رئيس الحكومة نواف سلام، مع وضع هيكليّة فعّالة تبدأ بتفعيل خطط تضمن السّلامة المروريّة والسهر على تطبيقها"، معتبراً أنّ "هذا الأمر لم يحصل منذ العام 2019 بسبب عدم ايلائه الاهتمام المطلوب".
يشدد ابراهيم على ضرورة "اعتماد خطة استراتيجية تشارك فيها القطاعات كافة، حيث يعي كلّ قطاع ماهيّة دوره وتتمّ محاسبته إن لم يقم به كما يجب"، معتبراً أنّ "سلامة الطرقات تتحقّق عبر اعتماد خبراء متخصّصين ومراقبين يفعّلون الأدوات كافة لتحويلها من دروب موت إلى طرقات متسامحة".
ويكشف على سبيل المثال لا الحصر عن "تسطير مبالغ مرتفعة في وزارة الأشغال العامة والنقل السابقة لصيانة الطرقات، لكنّ المقاربة لم تكن واضحة والأموال لم تُصرَف بالاتّجاه الصحيح".
في المقابل، يشدّد ابراهيم على أنّ "موضوع السلامة المرورية بات أولويّةً لدى الحكومات في العالم العربي وذلك بناءً على قرار سياسي يهدف إلى حماية الناس على الطرقات، إذ وُضِعت استراتيجيات فعّالة بدأت بتعيين خبراء في هذا المجال بهدف تطبيق معايير السلامة المرورية بطريقة علميّة"، لافتًا الى أنّ "المملكة العربية السعودية تشهد انخفاضاً هائلًا في عدد ضحايا حوادث السير إزاء تطبيق جدّي لقانون السّير بشكل صارم، فضلًا عن تطبيق المعايير الأساسية على الطرقات وإنشاء إدارة موحّدة للطرقات تعمل وفق تنظيم معيّن وليس بشكل عشوائي".
ويرى ابراهيم أنّ "لبنان أمام فرصة جديّة لتحقيق الإصلاحات المطلوبة"، موضحاً أنّ "دور البلديات الجديدة أساسي لتنفيذ الخطط المطلوبة بالتعاون مع الجهات الرسميّة المعنيّة، ما يسفر عن إدارة الأموال بشكل صحيح".
ويختم بالقول: "الموضوع يتطلّب هيكلية واضحة وفعّالة، مستندة إلى قرار سياسي ووطني موحّد يهدف إلى تطبيق القانون بشكل صارم في المناطق اللّبنانيّة كافة، تنظيم مشكلة النقل العام والدراجات الناريّة، تحسين بيئة آمنة للمشاة كما يذكر قانون السّير من خلال شرعة حقوق المشاة"، مشدّداً على أنّ "قانون السير الجديد الصادر منذ عشر سنوات لم يُترجَم على أرض الواقع، وتطبيقه بات في "خبر كان" على المستوى الرسمي، ما تسبّب بارتفاع نسبة الوفيّات جرّاء حوادث السّير على الطرقات اللبنانيّة".
التحكّم المروري: لا حياة لمن تنادي
تضرّرت غرفة التحكّم المروري في انفجار 4 آب 2020 ولم تتمّ صيانتها جديّاً حتى الآن بسبب الخلل في الإدارات المعنيّة. ويشير ابراهيم إلى "ضرورة إعادة تشغيلها كي تؤدّي مهامها كما يجب.
فدورها لا يقتصر فقط على مراقبة الشاشات وإعلام الناس بأماكن الزحمة فحسب، بل يجب تفعيلها بحسب استراتيجيّة واضحة وخطط فعّالة".
في المقابل، يعتبر مطران أنّ "غرفة التحكم المروري غائبة بشكل كليّ عن تنفيذ مهامها ولا أتوقّع عودتها إلى العمل بسبب تضارب المصالح مع جهات عدّة مستفيدة من هذا الغياب".
وكانت دراسة للأكاديمية اللبنانية الدولية للسلامة المرورية قد أشارت إلى أنّ زيادة عدد الحوادث المميتة أمر حتمي، كاشفةً أنّ "الطرقات الأكثر خطورة للقيادة في لبنان هي: طريق خلدة – المطار، طريق ضهر البيدر – المريجات – فالوغا، طريق شتورة - تعنايل، طريق زحلة - بعلبك، طريق ذوق مصبح - فاريا، طريق شكا - القلمون، طريق دير الزهراني - النبطية".
وأضافت الدراسة عينها أنّ "العدد الأكبر لهذه الحوادث يُسجّل في منطقة كسروان - المتن"، لافتةً إلى أنّ "منسوب الخطر يرتفع ما بين الساعة التاسعة ليلاً والسادسة صباحاً، بسبب السهر والتّعب والكحول".
غياب البيانات "عن السّمع"
كان لبنان قد احتلّ منذ أشهر قليلة مرتبة متدنيّة جداً في التصنيف العالمي، على مستوى جودة البيانات المتعلّقة بحوادث السير.
ويشير ابراهيم في هذا الخصوص إلى أنّ "عدم امتلاك "داتا" دقيقة وواقعيّة سيؤدي إلى بناء خطط غير فعّالة لأنّها بُنيت على معلومات خاطئة"، مشدّداً على ضرورة "التعاون مع قوى الأمن الداخلي بهدف جمع المعلومات من موقع الحادث بشكل علمي وتحديد أسبابه ونتائجه، فضلًا عن معرفة أعداد القتلى وتفنيد أنواع الإصابات ومدى خطورتها".
ويتابع قائلًا: "على وزارة الصحة وضع آليّة واضحة مع المستشفيات الحكومية والخاصة، بهدف تشكيل قاعدة بيانات موحّدة مرتبطة بحوادث السير، نربط بينها وبين "داتا" وزارة الداخليّة كي نتمكّن من التدقيق في أعداد الضحايا والمصابين".
لكن، هل سنشهد تحسيناً ولو بشكل بطيء لهذا الوضع القاتم أم سنبقى ضمن لائحة الضحايا مع وقف التنفيذ؟