خطة TNVR تدخل حيز التنفيذ... هل تتلقف البلديات مبادرات المجتمع المدنيّ؟
الكلاب الشّاردة في بيروت: ضحية الانهيارَين الاقتصاديّ والأخلاقيّ!
فتات عيّاد - "نداء الوطن"
منذ أيام، أصيبت مواطنة بجروح في قدمها، بعد مهاجمتها من قبل كلاب شاردة على شاطئ مسبح صيدا الشعبي. هذه الحادثة، تأتي بعد أقل من شهر على موت شخصين على شاطئ الرملة البيضاء في بيروت، اعتبرت تقارير الطبيب الشرعي، سبب وفاتهما، توقف القلب، نتيجة عضات الكلاب الشاردة في المحلة. تُهم رفضها ناشطون وجمعيات رفق بالحيوان، اعتبرت أن فعل العضّ حصل بعد وفاتهما في ظروف غامضة. وفيما أقفلت التقارير الرسمية باب التكهن بظروف موت أخرى، إلا أنّ الحادثتين فتحتا أزمة الكلاب الشاردة على مصراعيها، والتي تفاقمت في سنوات الانهيار الاقتصادي.
وبمعزل عن ظروف موت الرجلين، فالمؤكد أن الكلاب الشاردة والسكان في آن، هم ضحية ظاهرة غير مضبوطة، لكلاب غير مطعمة، قد تنقل عضتها للإنسان عدوى داء الكلب، ظاهرة كرسها الانهيار وضعف إمكانيات البلديات في مواجهتها. ضعف، تكشّفت ذروته في عملية تكليف فوج إطفاء بيروت، عملية القبض على كلاب الرملة البيضاء الشاردة بعد حادثتي الوفاة، والذي لم تكن لديه إبرة تخدير الكلاب، وفق ما يكشف مصدر في الفوج لـ "نداء الوطن"، مع عدم تدريب على مهام من هكذا نوع، وسط ضغط من لوبي ناشطين صرخت إحداهنّ بضابط في الفوج أثناء التقاط كلبة من نوع بيتبول "بقوصَك براسَك"، وهو ما أفشل عملية التقاط جميع كلاب مجموعة الكلاب الشاردة في الرملة البيضاء لليوم، وعلى رأسهم الكلب "ألفا" القائد للمجموعة.
الفضيحة الأكبر، أن المجلس البلديّ السابق في بيروت، لم يتحرك إلا بعد حادثتي الرملة البيضاء، أي قبل انتخاب المجلس البلدي الحاليّ بأيام، ليتواصل مع مبادرين لتأمين أماكن إنقاذ مع البلدية للكلاب الشاردة، لكن كان جواب المبادرين " it’s too late".
اليوم، ومع انتخاب مجالس بلدية جديدة، وطي صفحة الانهيار الكبرى، تبدأ وزارة الزراعة، بتطبيق المرحلة الأولى من "خطة TNVR" أي (Trap – Neuter – Vaccinate – Return)، من ضمن الخطة الوطنية لمكافحة داء الكلب، والتي يعول عليها للحدّ من ظاهرة الكلاب الشاردة، وإشراك البلديات بالحلول.
فما هي تفاصيل هذه الخطة؟ وماذا عن مبادرات المجتمع المدني من جمعيات وناشطين؟ والسؤال الأهمّ: هل تفتح البلديات صفحة جديدة بالتعاطي مع هذا الملف، عبر التحرك الجدي لتكييف هذه الكلاب مع البيئة وتكييف السكان معها؟
بين البلديات والمواطن: انهيار مزدوج
تمثل منطقة الناعمة (غالبية مسيحية) وحارة الناعمة (غالبية مسلمة) في الشوف، نموذجاً فاضحاً عن عجز البلديات على مواجهة أزمة الكلاب الشاردة. ففي وقت استعرت مطالب إنشاء بلديتين لخلفيات طائفية (ولم تجر الانتخابات البلدية فيها لليوم)، كانت ظاهرة الكلاب الشاردة "واحدة" في الناعمة وحارتها، سيما بعد حل المجلس البلدي فيها منذ العام 2023.
ومسؤوليات وزارة الزراعة والبلديات، تحددها المادة 12 من قانون الرفق بالحيوان تاريخ 05/09/2017، حيث "تضع وزارة الزراعة التوجهات العامة للتعامل مع الحيوانات الشاردة"، بما في ذلك "تحديد النّسل والقبض عليها ومراقبة داء الكلب ووجوب إمهال أصحابها مدة زمنية معقولة لاستعادتها ومعايير الإيواء وإجراءات مكافحة الأمراض".
أما عن مسؤولية البلديات، فـ "تضع البلديات خطة للتعامل مع الحيوانات الشاردة بناء على توجهات وزارة الزراعة وتعمل على تنفيذها سواء مباشرة أو بالتعاقد، مع إحدى الجهات المنصوص عليها في المادة 23 من القانون نفسه (المنظمات غير الحكومية والأشخاص المعنويين الذين يحق لهم إنشاء مراكز إنقاذ للحيوانات)".
والحال أنّ ظاهرة الكلاب الشاردة، تفاقمت إثر الانهيار الاقتصادي، مع تخلي مواطنين عن كلابهم، بشكل غير مسبوق، نتيجة عدم القدرة على تأمين طعام لهم. وترافق ذلك إثر انتشار وباء كورونا، حيث خشي مواطنون من نقل الكلاب أمراضاً لهم، فتخلوا عنهم أيضاً، ثم أتت حرب إسرائيل الأخيرة على لبنان، لتجعل نازحين يتخلون عن كلابهم قسراً.
لكن أخطر أنواع التخلي، كان وضع كلاب مدربة على القتال "كلاب الـ Fight"، أو كلاب الحراسة كذلك، في الشارع وسط الناس، بلا طعام وبلا مأوى، كدليل انعدام مسؤولية وإنسانية كبيرين، سواء تجاه تلك الكلاب، أو السلامة المجتمعية، فتلك الكلاب تنحو للشراسة بعد تدريبها سيما عندما لا يتوفر لديها الطعام.
مسؤولية الإنسان، لا تقع فقط عمن تخلوا عن الكلاب التي اقتنوها، بل أيضاً على عاتق المجتمعات التي عاشت فيها تلك الكلاب، وتعرضت للرمي بالحجارة وأفعال عنفية، جعلت سلوكياتها تميل للعنف والاستشراس، وهو إن دلّ على شيء فعلى أنّ ظاهرة استشراس الكلاب الشاردة، كانت في غالبيتها من صنع الإنسان وظروف الانهيار اللبنانيّ على حد سواء.
ومن نتائج الانهيار أيضاً، أزمة النفايات المتكدّسة في الطرقات، وفي ظل عدم تنفيذ أي خطة لتحديد النسل (إخصاء الذكور وتعقيم الإناث من الكلاب)، كانت الكلاب تتكاثر، وسط بيئة حاضنة للتكاثر، حيث عاشت على بقايا النفايات. فإذا كانت الكلبة الأنثى تحمل مرتين في العام، كانت تنجب 16 جرواً سنوياً، يعيش منها قبل الأزمة 4 على أبعد تقدير، ويعيش الـ 16 جرواً جميعهم بعد الأزمة، لقدرتهم على الحصول على الطعام من النفايات المتراكمة.
المرحلة الأولى من خطة TNVR
يرفض ناشطون في مجال الرفق بالحيوان، فكرة قتل الكلب لإنسان، لكن المؤكد أن الانهيار ولّد استهتاراً بالكلاب الشاردة والمجتمعات التي عاشت فيها في آن، بل وتسبب بمخاطر على السلامة العامة، أبرزها خطر انتشار داء الكلب. فالكلاب الشاردة غير المطعّمة، تزداد خطورة في حالة إصابتها بداء الكلب، الذي قد يتسبب في بعض الحالات بوفاة الإنسان، إن نقلت له العدوى، جراء عضة الكلب المصاب له.
هذه المخاطر، تعيها الدول التي تحترم الإنسان والحيوان معاً، فتلقح الكلاب الشاردة. أما في لبنان، المشغول بانهياره على حساب المواطن والحيوان، فهناك فرصة اليوم لتصحيح المسار بعد انفلاته بشكل غير مسبوق.
فأخيراً أطلقت وزارة الزراعة، منذ أيام، بالتعاون والتنسيق مع نقابة الأطباء البيطريين في لبنان، في إطار تنفيذ الخطة الوطنية لمكافحة داء الكلب، المرحلة الأولى من خطة
TNVR (Trap – Neuter – Vaccinate – Return)، الهادفة إلى الحد من خطر انتشار داء الكلب. وترتكز الخطة وفق بيان وزارة الزراعة، على إمساك الكلاب الشاردة (T)، ثم تعقيمها جراحياً (N)، وتلقيحها ضد داء الكلب (V)، قبل إعادتها إلى بيئتها الطبيعية (R)، وذلك بعد تمييزها بواسطة حلقة في الأذن تؤكد أنها ملقّحة ومعقّمة، مما يحد من تكاثرها العشوائي، وهو نظام تتبعه دول كثيرة، مثل تركيا، لتجعل تلك الكلاب متكيفة في البيئة التي تعيش فيها.
وتعتمد المبادرة على الجهود التطوعية لمجموعة من الأطباء البيطريين في مختلف المناطق اللبنانية، الذين بادروا إلى إجراء العمليات الجراحية مجاناً، "إيماناً منهم بأهمية حماية الصحة العامة وتعزيز السلامة المجتمعية".
علماً أن هناك شركات مستوردة للأدوية البيطرية، "بادرت بتأمين لقاحات التحصين ضد داء الكلب، وقد بدأ تنفيذ المبادرة ضمن نطاق جغرافي محدود، على أن تتوسع تدريجياً لتشمل جميع المناطق اللبنانية، لا سيّما مع انتخاب المجالس البلدية الجديدة التي تعوّل الوزارة على دورها في إنجاح هذه الخطة".
دكتور يحيى خطار، رئيس مصلحة مراقبة التصدير والاستيراد والحجر الصحي البيطري في وزارة الزراعة، يلفت إلى أن خطة TNVR، تطوع فيها أطباء بيطريون كل في منطقته لتطعيم من 3 إلى 10 كلاب، لاستكمال مشروع الدكتورة ريهام بسام التي توفيت منذ أشهر، وتتمحور الخطة حول، "إخصاء الكلاب الذكور، تعقيم الكلاب الإناث، تطعيمها، ثم إعادتها للبيئة التي جلبناها منها للحد من تكاثرها أولاً، وضمان سلامتها وسلامة المجتمع ثانياً، وعدم احتمال نقلها داء الكلب لأحد".
ويميز خطار بين كلاب الطريق، و"بيئتها الطريق"، وبين الكلاب الشاردة، التي رماها أصحابها في الشارع إبان الأزمة الاقتصادية، لافتاً إلى أن الكلاب المستوطنة في منطقة ما، تتحول لحالة دفاع عن بعضها البعض كـ "مجموعة"، وتقفل على نفسها، رافضة دخول كلاب أخرى لتلك البيئة.
من هنا يرى خطار بأن "ملاجئ الكلاب" ليست حلاً مستداماً، فبعيداً عن أزمة امتلاء الملاجئ في لبنان، وعدم تمويل مشاريع تعنى بالكلاب الشاردة، حيث ذهب التمويل للسكان في لبنان إثر الأزمة، فالكلب تتم إزالته من بيئته ووضعه في قفص أشبه بسجن، والحلّ يكمن بإخصاء الكلاب وتطعيمها، ثم إعادتها للشارع أو بيئتها، مع نشر الوعي حيال التعامل معها، لمنع استشراسها الناجم غالباً عن معاملة الناس لها، كرمي الحجارة عليها وغيره، وهنا تكمن أهمية وفاعلية خطة TNVR.
مبادرات بانتظار تعاون البلديات
في العاصمة بيروت مثلاً، كانت جمعية "حملة الأزرق الكبير" تعنى بسلامة رواد شاطئ الرملة البيضاء، وتحذر رواده من الاقتراب حيث منطقة الكلاب الشاردة، ووضعت في الآونة الأخيرة حارساً ليوجه الناس، وكل هذا بمبادرة من أصحاب الجمعية، فيما بلدية بيروت كانت طيلة سنوات الأزمة، غائبة، وقسم كبير من جمعيات الرفق بالحيوان، يشكو عدم توفر أماكن لاحتواء الكلاب أو حتى تأمين الطعام لها.
أديب قباني، مؤسس جمعية Help Foundation، هو أحد المبادرين لاقتراح إنشاء "محميّة" للكلاب الشاردة، هدفها الأساسي، تطعيم الكلاب، و"تأهيلها" لتصبح قابلة للعيش مع المجتمع، وتأهيل المجتمع بالتوازي، للتكيف معها بعد إعادتها "أليفة" من بعد حالة "الاستشراس" التي تسببت بها سوء معاملة السكان كالهجوم عليها بالحجارة وممارسات أخرى.
ويقترح قباني، تأمين البلدية أراضي مشاع، "نجمع فيها هذه الكلاب، نطعّمها، نؤمن لها الطبابة، ونجهزها لمدة 3 أشهر، فالتمويل جاهز من جمعيات في الخارج مستعدة لإنجاح التجربة، شرط وجود خارطة طريق واضحة، لتأمين تمويل شفاف للمشروع، وقد تواصلت بدوري مع مدربين مستعدين لرعاية تلك الكلاب ليصار إلى تأهيلها وإعادتها للشارع بعد زوال خطر شراستها، نتيجة غياب الوعي بأساليب التعامل معها من قبل السكان".
وعن المجلس البلدي السابق لبيروت، يوضح أننا "طلبنا أكثر من مرة اجتماعاً مع المعنيين، وضمنهم محافظ بيروت مروان عبود، لكن لم يحالفنا الحظ معه فقد كان خارج البلاد في حينه، ونستبشر اليوم خيراً باهتمامه بالملف، عسى أن يبدي المجلس البلدي الجديد اهتمامه أيضاً، ويترجم ذلك الاهتمام، بإعطائنا غطاء قانونياً للمبادرة، فالمجلس البلديّ السابق، لم يستفق إلا عند وقوع حوادث الموت عند الرملة البيضاء.
في المقابل، يركز قباني على ضرورة تأهيل المجتمع، كاشفاً عن "ملتقى لمربي ومحبي الكلاب" قريباً، "سنشكل عبره نواة، لإطلاق برنامج تأهيل للسكان للتعامل مع الكلاب، فتأهيل المجتمع هو ضمان نجاح برامج تأهيل الكلاب الشاردة، كي نضمن بقاءها أليفة بعد تأهيلها".
ختاماً، يبقى التعويل على أداء مغاير للمجالس البلدية الحالية، فمن المعيب أن تدير جمعية حملة الأزرق الكبير شاطئ العموم المجاني في الرملة البيضاء، فيما تعجز بلدية بيروت عن إيجاد الكلبة "ألفا" في مجموعة كلاب الرملة البيضاء!