هل جُمّدت مساعي الإصلاح الاقتصادي في لبنان؟

هل جُمّدت مساعي الإصلاح الاقتصادي في لبنان؟

image

هل جُمّدت مساعي الإصلاح الاقتصادي في لبنان؟
المشهد الإقليمي والمحلي المأزوم "يفرمل" الإصلاحات الاقتصادية

إليانا ملّوك - المدن
مع اشتداد وتيرة التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران، واستمرار الاستهدافات الإسرائيلية جنوب لبنان، يجد لبنان نفسه اليوم في قلب معادلة إقليمية خطيرة تُشتّت اهتمام المجتمع الدولي وتفاقم هشاشته الداخلية. فبينما كان تشكيل الحكومة الجديدة مطلع هذا العام بارقة أمل لإطلاق عجلة الإصلاح، لا تعكس المؤشرات العملية اليوم اندفاعة فعلية أو خارطة طريق واضحة نحو التعافي المالي والاقتصادي.
ورغم إطلاق بعض المبادرات الحكومية في مجالات تحسين الإدارة وتحديث الخدمات، لا تزال معظم الملفات الإصلاحية الجوهرية عالقة، من إعادة هيكلة القطاع المصرفي، إلى ضبط المالية العامة، واستعادة الثقة بالمؤسسات الرقابية والقضائية. إن غياب التعيينات في مواقع حساسة، وتباطؤ تنفيذ الوعود، وتفاقم الشلل في مجلس النواب، جميعها عوامل تُفرغ الحكومة من زخمها وتُضعف قدرتها على التحرّك الفعّال.

على الصعيد الخارجي، فإن تباطؤ المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وتعثّر التفاهمات حول خطة تعافٍ متكاملة، إلى جانب شحّ الدعم الخليجي والدولي، تشير إلى تراجع الحماسة الدولية لمواكبة لبنان في مشروع إصلاحه. حتى التزامات مؤتمر الدعم الأخير بقيت دون تنفيذ، وسط انعدام الثقة بخطاب الدولة وغياب أيّ ضمانات فعلية للإصلاح. ويتقاطع ذلك مع تراجع دور الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية لصالح أولويات الإنفاق العسكري والأزمات المستجدة عالميًا، ما يزيد من عزلة لبنان التمويلية.

وسط هذا المشهد الإقليمي والمحلي المأزوم، وتفكك أدوات الدولة، يطرح السؤال نفسه: هل لا تزال هناك فرصة واقعية للإصلاح الاقتصادي في لبنان؟ أم أن الجهود قد جُمّدت، أُفرِغت من مضمونها، أو تمّ تأجيلها إلى أجل غير مسمّى؟

المشكلة بمواقع القرار لا بالكفاءات
تشير رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي ونائبة رئيس لجنة الأمم المتحدة للخدمة العامة، لمياء المبيّض بساط، إلى أن المعضلة الأساسية لا تكمن في غياب الكفاءات أو الحلول التقنية، بل في تغييب هذه الكفاءات عن مواقع القرار. وتلفت إلى هيمنة الوجوه المعتادة أو عديمي الخبرة على المواقع التنفيذية، ما يجعل إمكانية الإصلاح مستبعدة بفعل العجز أو رفض المساءلة والتنفيذ.

لكن، بحسب حديث بساط لـ"المدن"، تتجاوز المشكلة الأشخاص، لتكمن في طبيعة النظام السياسي اللبناني نفسه: نظام محاصصة، طائفية، ركود مؤسسي، ممارسات إقطاعية مترسخة. نظام "متمرّس"، بحسب وصفها، لا يكتفي بإهمال محاولات الإصلاح، بل يقوم بـ"تفخيخها"، كما في ملف الإصلاح المالي وهيكلة القطاع المصرفي، الذي يشهد منذ ست سنوات، حملات تضليل وتشويه، وحماية منظمة لمصالح مكتسبة.

وتلفت بساط إلى غياب الوعي أو حالة من الإنكار الجماعي لحجم الخسائر الوطنية، رغم تفاقم الفقر، وهجرة الشباب، وتراجع المؤشرات الدولية على مختلف المستويات. وتقول: "لبنان وحده أمام نفسه، لكن اللبناني يفضّل إدارة وجهه والعيش يومًا بيوم".

كما أن غياب الدعم المالي الدولي ليس محض صدفة، بل هو مرتبط مباشرة بالغموض السياسي والمخاطر الأمنية وتحوّل الأولويات الدولية نحو الإنفاق العسكري وتقليص المساعدات. وترى بساط أن الخروج من الأزمة يتطلّب "مصارحة وجرأة" وفرض توافق وطني عابر للطوائف حول الحلول، إلا أن هذا التوافق يبدو بعيد المنال حتى الساعة.

تعافٍ هش وغياب الدفع البنيوي
من جهتها، ترى الخبيرة الاقتصادية الدكتورة علا الصيداني أن الحديث عن تعافٍ اقتصادي في لبنان لا يمكن فصله عن الواقع البنيوي الأوسع، المتمثّل في غياب مقومات الدولة القادرة على التخطيط والتنفيذ، وفي انكماش قدرة المؤسسات العامة على استيعاب الأزمات أو تحويلها إلى فرص. فالتعافي الاقتصادي، كما تشير، لا يحصل تلقائيًا، بل يتطلب "دفعًا ماليًا كبيرًا" في مرحلة أولى يعيد وضع القطاعات الأساسية على السكة، ويمنح القطاع الخاص حدًا أدنى من الأمان لتحريك العجلة الإنتاجية. وهذا الدفع، بحسبها، غائب بالكامل في الحالة اللبنانية.

وتضيف الصيداني أن أي جهود إصلاحية جزئية تبقى، في غياب هذا الدفع، محكومة بالفشل أو محدودة النتائج على المدى المتوسط، ومرتبطة بشروط دقيقة: غياب الحرب، تحسّن المناخ السياسي، ووجود شركاء دوليين قادرين على توفير الدعم المادي والتقني. إلا أن هذه الشروط غير متوفرة اليوم، في ظل التدهور الأمني في الجنوب، والانكماش الدولي في تمويل الأزمات المعقّدة، وتراجع ثقة المانحين في قدرة الدولة اللبنانية على التنفيذ.

ورغم أن الحكومة الحالية باشرت خطوات مهمّة، كالإصلاح الإداري، محاولة ترشيد القطاع العام، إدخال التكنولوجيا في العلاقة بين القطاعين العام والخاص، وإعادة تحريك بعض ملفات التعاون الاقتصادي، إلا أن الوتيرة البطيئة، والنقص الحاد في الكفاءات داخل الإدارة العامة، إضافة إلى غياب رؤية استراتيجية متكاملة، تجعل هذه المبادرات غير كافية أو غير مستدامة.

وتحذّر الصيداني من الوقوع في فخ قراءة الأرقام بمعزل عن السياق. فحتى لو أظهرت بعض المؤشرات نموًا اقتصاديًا موسميًا أو فئويًا، فإن هذا النمو يفتقر إلى مقومات الاستدامة، خصوصًا مع غياب النشاط المصرفي المنظّم، واستمرار التوسّع في ممارسات الاقتصاد النقدي. ما يحصل اليوم، بحسبها، هو تعافٍ هش وغير إنتاجي، يخفي هشاشة كبيرة في البنية الاقتصادية.

وتشير إلى أن القدرة الشرائية باتت منقسمة بوضوح: مرتفعة نسبيًا لدى من يملكون "الفريش دولار"، ومتدهورة بشدة لدى المتعاملين بالليرة اللبنانية، من موظفين ومتقاعدين وفئات فقيرة. كما أن المساعدات الإنسانية – نقدية أو عينية – لا تُشكّل مدخلًا إلى تحسين الدخل أو تعزيز الإيرادات العامة، بل تؤدي إلى تضخيم مؤشرات الاستهلاك بشكل زائف، وتخلق وهمًا بالتعافي.

وتضيف أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة زادت من تعقيد المشهد، إذ قوّضت أي فرص فعلية للنمو، وأثقلت كاهل الفئات الأكثر هشاشة. أما الدولة، فتسعى إلى تقليص النفقات بهدف تحقيق فائض مالي، لكن هذا يأتي على حساب الإنفاق الاستثماري في قطاعات حيوية مثل الصحة، التعليم، والبنية التحتية، مما يجعلنا أمام سياسات تأجيل الأزمة لا حلّها.

في المحصّلة، ترى الصيداني أن لبنان بحاجة إلى تحوّل بنيوي حقيقي في منهجية إدارة التعافي، يبدأ بضخّ موارد استراتيجية، ويواكبه تخطيط متكامل مبني على واقع كل قطاع وقدرته على التكيّف مع الأزمات. أما الإصلاحات المتفرقة في ظل الانكماش المالي والعزلة السياسية، فهي غير كافية لتحقيق تعافٍ مستدام.

فرص الإصلاح مقيّدة ومحدودة
ما بين فقدان الزخم الحكومي وتجميد الالتزامات الدولية، وبين ترسّخ البنية السياسية الرافضة للتغيير وتعاظم الكلفة الاجتماعية والاقتصادية للحروب، تتقاطع الشهادتان على خلاصة واحدة: فرص الإصلاح السياسي والاقتصادي في لبنان موجودة نظريًا، لكنها مقيّدة ومحدودة في الواقع. الأسباب متعددة، تبدأ ببنية النظام السياسي، وتمر بانعدام التوافق الوطني وغياب الموارد والقدرة التنفيذية، ولا تنتهي بعزوف المانحين والمستثمرين عن خوض مغامرة في بلد يفتقر إلى الحد الأدنى من الاستقرار والحكم الرشيد.

لقد انقلبت اللحظة المفترضة للإصلاح إلى لحظة من الجمود والتباطؤ، ومع أن بعض المبادرات قد تؤتي ثمارًا تدريجية، إلا أن هشاشتها، وعزلتها عن مشروع وطني جامع، تحوّلها إلى محاولات موضعية بلا أثر عميق.

وهنا يبقى السؤال: هل يملك لبنان ترف الانتظار؟ وهل يمكن، في ظل هذا الانهيار الخروج بخريطة طريق إصلاحية تعيد الاعتبار لمفاهيم العدالة، الإنتاجية، والاستقرار؟ أم أن البلاد ستبقى عالقة بين خطاب الإصلاح... واستحالة تنفيذه؟


مقالات عن

الاقتصاد لبنان