ثغرة قانونيّة تطيح المعلّمين وتُجمّل "الجريمة" بالرواتب القديمة!
محفوض يُحذّر من استغلال المادة 29 لطرد الأساتذة دون مبرّر... ويُلوّح بالقضاء
ندى عبد الرزاق - الديار
في زاوية منسية من قانونٍ وُلد قبل أن تعرف هذه البلاد معنى الانهيار، تربض مادة تشبه قنبلة موقوتة داخل حقيبة مدرسية، لا تنفجر إلا صيفا ولا تُخلّف ضجيجا، بل صمتًا ثقيلًا وأحلاما مُقصّفة. المادة 29 من قانون التعليم الخاص ليست سوى ثغرة مشرّعة، كنافذة خلفية للهروب من أي التزام أخلاقي، تمنح إدارات المدارس الخاصة مفاتيح الصرف المفتوح دون سبب، دون حاجة الى شرح، ودون حتى لحظة تأمل في مصير من يتم الاستغناء عنه بدم بارد.
ما يبدو على الورق مجرّد "صلاحية إدارية"، يتحوّل في الواقع إلى رخصة للتخلّص من المعلم كما يُستبدل لوح طباشير مستهلك، لا لذنب ارتكبه، بل لأن الظروف شاءت والحسابات ضاقت، ولأن النص أعطى الحرية كاملة لمن أراد أن ينفض يده من شرْكة عمرها سنوات، بجملة موقّعة وختم.
المفارقة ليست فقط في نصٍ صُمّم لعصر انتهى، بل في كيفية استغلاله اليوم لتبرير الاستهلاك الممنهج لأهل التعليم، ثم التخلص منهم بصيغة قانونية، لا تقل عنفا عن الطرد المباشر. وهنا تبدأ عملية "التجميل الإداري" التي تُلبس الظلم قناعًا من التنظيم، حيث تُفرغ الحقوق من معناها، ويُضغط على المعلم ليتخلى عنها باسم اللياقة أو الحاجة أو "تفادي المشاكل".
قم للمعلم وفّه "الترحيلا"!
في جميع الأحوال، ما يجري ليس مجرد خلل قانوني، بل فلسفة كاملة في إدارة العلاقة مع المعلّم: اعتباره قابلًا للاستبدال، وحقوقه ممكنة للتقسيط أو الشطب، وكرامته مسألة ثانوية إن تعارضت مع ميزانية المدرسة أو مخططاتها المستقبلية.
من هنا، لا بد من مساءلة صريحة: كيف يمكن لمؤسسة تُفترض أنها تُربّي على الحقوق، أن تُمارس هذا الكم من التحايل على من يحمل رسالتها؟ وأي شرعية تبقى لقانون يسمح بأن يُقصى المعلّم في نهاية كل عام، كأنه تاريخ صلاحية انتهى؟ وهل يجوز أن يظل هذا النص أداة طيّعة تُستخدم موسميا، لتفريغ المؤسسات من معلميها بدون رقابة او ضوابط وبلا خجل؟
لذلك، ربما آن الأوان لإعادة النظر في قانونٍ تحوّل من أداة تنظيم، إلى سكين ناعمة تُذبح بها مهنة التعليم دون أن يشعر بها أحد.
انطلاقا من هذا الواقع المربك، ومن ثغرة قانونية تُستغل بصمت، تبرز الحاجة إلى طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية التي تُلامس عمق المشكلة، وتُضيء على مكامن الخلل في العلاقة بين الإدارات التعليمية والمعلمين، كما تكشف طبيعة التحايل الذي بات جزءًا من الممارسة المؤسسية المتكررة: ما مدى مشروعية استمرار العمل بنص قانوني وُضع في سياق تاريخي مختلف، ويُستخدم اليوم كغطاء لصرف جماعي غير مبرّر؟ وكيف يمكن التمييز بين الحاجة الإدارية الحقيقية، والتخلص المقنّع من المعلمين تحت ذريعة الأزمة، وما الضوابط التي تمنع هذا التحايل؟ وأين يقف دور الجهات النقابية والتربوية والتشريعية من هذا التواطؤ الصامت؟ وهل بات السكوت عن هذه الممارسات نوعًا من الشركة غير المعلنة في تكريس الظلم؟
المادة 29 من قانون 1956
في ضوء هذه المعطيات، يشرح نقيب المعلمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض لـ "الديار" أن "قانون 1956 يسمح للمدير بموجب المادة 29 بصرف الأستاذ الذي يريد وفي أي وقت يشاء، وهذا يسمى "الصرف التعسفي"، أي أن الصرف يتم بدون أسباب واضحة. من هنا، يلجأ بعض المديرين إلى هذه المادة لإنهاء خدمات أساتذة.
وبالاستناد الى ما تقدم، يوضح:
- "أولا: من وجهة نظر هؤلاء أنهم يقدمون تعويضات على سعر صرف 1500 ليرة للدولار الواحد، مما يعني ان الأستاذ إذا قضى 30 أو 40 عاما في التدريس، فقد يحصل على تعويض بقيمة 150 مليون ليرة لبنانية، أي ما يوازي 1500 دولار، وهذا يعد كارثة كبرى.
- ثانياً: بإمكانهم استبدال أساتذة معاشاتهم "حرزانة" أي جيدة، بآخرين جدد يدفعون لهم أقل. ولكنهم تناسوا أننا أجرينا استشارة مع المحامي زياد بارود، المستشار القانوني لنقابة المعلمين، والتي تقول: عند صرف أي أستاذ حاليا، فإن تعويضه يحتسب ليس على سعر صرف الـ 1500، بل يحتسب على أساس الراتب الفعلي، أي على مجموع ما يتقاضاه المعلم من المدرسة بجميع العملات. وبالتالي، فان المدارس التي أقالت معلمين وتحاول تصفية التعويض على أساس دولار 1500، عرضنا عليها المشورة التي قدمها بارود، ونجري مفاوضات بيننا وبين بعض المؤسسات التربوية، ليتم دفع التعويضات على أساس الراتب الفعلي لا على دولار الـ 1500، وإلا فإننا ذاهبون إلى القضاء".
ويضيف: "لقد قلت إن مستشارنا القانوني المحامي بارود، أعد استشارة فحواها أن التعويض يجب أن يُحسب على أساس الراتب الفعلي، أي بحسب مجموع ما يتقاضاه الأستاذ من عملات في المدرسة. لكن إذا كانت المدارس لا تريد الأخذ بهذا الحديث أو الاقتناع به، ففي النهاية لدينا محام وهم لديهم أيضا، وبالتالي نتوجه إلى القضاء. ونحن تحت سقف القانون، نلتزم بما يحكم به ويقوله القضاء والقوانين اللبنانية".
القضاء المستعجل غير مستعجل!
ويأسف: "لأن أداء القضاء المستعجل في لبنان يتناقض مع تسميته، إذ تسجل حالات عديدة تبقى فيها الملفات مفتوحة لسنوات قبل صدور الحكم، مما يفرغ مبدأ الاستعجال من مضمونه".
ويأمل من وزير العدل الجديد عادل نصّار، لا سيما بعد تشكيل مجالس العمل التحكيمية وإصدار التشكيلات القضائية، "أن يصدر القضاء أحكامه بشكل فعّال دون مماطلة أو تمييع للوقت، بل بشكل مستعجل، لأن المعلم عند صرفه من المدرسة يتوقف راتبه وضمانه الصحي، كما يوقَف أبناؤه الذين كانوا يدرسون مجانا، وبالتالي يعيش المعلم مأساة حقيقية كونه يعيل حياته من هذا المردود".
ويؤكد أن "النقابة تتفاوض عبر مستشارها القانوني، مسميًا عددا من المدارس التي قامت بتسريح أساتذة مثل: "الليسيه" في بيروت حيث سرّحت نحو 20 أستاذا، وأيضا "الشاريتيه"، و "السان شارل" في الأشرفية.
النقابة تحذر!
ويكشف أن "هناك مدارس تحاول جعل الأساتذة يوقعون على أساس أنهم أخذوا تعويضاتهم من 2019 وحتى 2025، وتدفع لهم تعويضات بالليرة، خوفا من تطبيق استشارة المحامي زياد بارود. ونحن نقول للمعلمين: لا توقعوا على أي استقالة او براءة ذمة من الآن وحتى 5 تموز، ويجب عدم التوقيع على أي ورقة قبل العودة إلى النقابة لفهم حقوقكم".
التلاعب القانوني "قانوني"!
ويشير إلى أن "هناك بعض المدارس التي تمارس التذاكي على القانون، من خلال إقناع المُسَرّحين بالتوقيع، موهمة إياهم أنهم حصلوا على تعويضاتهم منذ عام 2019، وتعطيهم تعويضا على أساس 1500 دولار. لذلك، حذرنا الأساتذة من الوقوع في هذا الفخ، ومن يريد ذلك يجب ان يعلم أن مستحقاته تحتسب على أساس الراتب الفعلي الحقيقي، وليس على دولار 1500".
ويطمئن الى ان "لدينا متّسع من الوقت من الآن وحتى مساء الرابع من تموز، وقد أصدرنا بيانًا ووزّعناه على المعلمين نحذّر فيه من التوقيع على أي ورقة قبل مراجعة النقابة".
ويختم: "أما بالنسبة للمعلمين الذين وُجّهت إليهم كتب صرف، فنحن نحاول حل مشاكلهم بالتعاون مع مستشار النقابة المحامي زياد بارود، وإن لم تصل المفاوضات الجارية بينه وبين المدارس إلى نتائج مُرضية، فإننا سنتجه إلى القضاء".