لبنان بين فوهة التصعيد ومسؤولية الدولة: قراءة في مواقف الشيخ نعيم قاسم

لبنان بين فوهة التصعيد ومسؤولية الدولة: قراءة في مواقف الشيخ نعيم قاسم

image

لبنان بين فوهة التصعيد ومسؤولية الدولة: قراءة في مواقف الشيخ نعيم قاسم

من الضاحية إلى الحدود: هل يعيد حزب الله رسم معادلة الحرب والسلم؟

داود رمال- اخبار اليوم

في خطاب لافت ألقاه من المجلس العاشورائي المركزي في مجمع سيد الشهداء في الضاحية الجنوبية لبيروت، رسم الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم ملامح موقف سياسي وأمني يتجاوز الطابع المناسباتي لمجالس عاشوراء. جاءت كلماته لتسلّط الضوء على تحوّل في خطاب حزب الله، بين ما تصفه قيادته بواجب الدفاع والردع، وبين دعوة مباشرة وصريحة إلى الدولة اللبنانية لتحمّل مسؤولياتها كاملة في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل على لبنان، بحسب وصفه.

الشيخ قاسم، الذي انتقل رسميا إلى موقع الأمين العام للحزب بعد عقود في موقع النائب، أراد من خلال هذا الظهور توجيه رسائل متعدّدة الاتجاهات: إلى الداخل اللبناني أولا، وإلى العدو الإسرائيلي ثانيا، وإلى المجتمع الدولي ثالثا. الرسالة الأساسية تمثلت في رفض ما وصفه بـ"العدوان المستمر"، محمّلا الدولة اللبنانية جانبا من المسؤولية، ليس فقط في المواجهة بل في ما يعتبره "التقصير" في ردع الاعتداءات واحتضان عناصر القوة الوطنية.

لكن المواقف التي صدرت عن الشيخ قاسم تثير أسئلة عدة، أولها: كيف يمكن الموازنة بين دعوة الدولة لتحمّل مسؤوليتها، وبين واقع تفرض فيه المقاومة قرارات الحرب والسلم خارج الأطر الرسمية؟ وثانيها: هل ثمة انسجام بين دعوة الدولة لاستلام زمام المبادرة، واستمرار حزب الله في تأكيد استعداده الدائم للرد والردع وفق ما يراه هو مناسبا؟

في هذا السياق، يعتبر قاسم أن وقف إطلاق النار – إن تحقق – ليس نهاية للمعركة بل بداية "مرحلة جديدة اسمها مسؤولية الدولة". هذا التحوّل في الخطاب يحمّل الدولة مسؤولية ضبط الإيقاع الأمني والوطني، لكنه في الوقت نفسه لا يعفي المقاومة من اتخاذ المبادرة إن رأت أن إسرائيل تجاوزت الخطوط الحمراء. وهي معادلة قد تبدو متناقضة في ظاهرها، لكنها تعكس واقعا مركّبا يعيشه لبنان منذ ما بعد العام 2006، حيث لا تزال العلاقة بين المقاومة والدولة تخضع لتجاذبات داخلية وخارجية.

وقد بدا واضحا أن كلام الشيخ قاسم يحمل تحذيرا ضمنيا، أو بالأحرى إنذارا متقدّما، مفاده أن الصمت لم يعد خيارا دائما، وأن الاستهدافات المتكررة – كالقصف الذي طال مدينة النبطية مؤخرا – لن تمرّ من دون ردّ. وهو ما يضع لبنان من جديد أمام سيناريوات مفتوحة: إما التصعيد، وإما تثبيت وقف إطلاق نار هش، رهن بتوازن الردع لا باتفاق رسمي معلن.

في المقابل، استدعى قاسم من الذاكرة معركة "أولي البأس"، مستشهدا بتفوّق المقاومة في ظروف غير متكافئة عددا وعدة، ليؤكد أن "الإيمان والتسديد الإلهي" كانا سببا في النصر. ومهما حمل هذا الاستشهاد من بعد رمزي وعقائدي لجمهور الحزب، إلا أنه 

يضع المعركة في إطار يتخطى الحسابات الميدانية المباشرة، وينقلها إلى مستوى أعلى من التفسير الوجداني والديني، وهو ما يفتح أيضا بابا لتأويلات متناقضة بين من يرى في ذلك مصدر قوّة، ومن يعتبره قطيعة مع منطق الدولة الحديثة.

أما على مستوى الإقليم، فقد أعاد قاسم تأكيد أن ما قام به حزب الله في معركة "الإسناد لغزة" لم يكن قرارا داخليا معزولا، بل التزاما سياسيا ومبدئيا تجاه القضية الفلسطينية. وبهذا الموقف، يربط الحزب ما يجري في الجنوب اللبناني بما يجري في غزة، في مقاربة ترى في الجبهتين ساحة واحدة، وإن كانت إدارتها تتم وفق حسابات محلية ودولية مختلفة.

إلا أن هذه الرؤية تثير بدورها مخاوف من أن يتحول لبنان إلى ساحة رديفة تُستخدم كأداة ضغط في صراع أوسع، دون أن تكون للدولة الكلمة الفصل فيه. وهو ما ينعكس في نقاش لبناني داخلي لا يهدأ، حول موقع لبنان من الصراعات الإقليمية، وحدود الانخراط، وأثمانه الاقتصادية والسياسية والأمنية.

والجدير بالتوقف عنده، هو ما تضمّنته كلمة الشيخ قاسم من تحميل الدولة مسؤولية ما وصفه بـ"السكوت عن العدوان". ففي الوقت الذي يشدد فيه على دور الدولة، يُبقي للحزب حرية المبادرة، وهو ما يعيد طرح الإشكالية المزمنة: هل يمكن الحديث عن مسؤولية موحّدة للدولة في ظل وجود قوى مسلّحة خارج قيادتها المباشرة، حتى وإن كانت هذه القوى تقول إنها تدافع عن لبنان؟

من جهة أخرى، فإن التوقيت الذي جاءت فيه كلمة قاسم لا يقل أهمية عن مضمونها. فهي تلت زيارة الموفد الأميركي توم بارّاك إلى بيروت، وحديثه عن خارطة طريق أميركية لاستكمال تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية وفق القرار 1701، وهو ما اعتبره البعض مقدّمة لتوسيع نطاق وقف النار في غزة ليشمل الجبهة اللبنانية. وبالتالي، فإن خطاب قاسم بدا ردا استباقيا على أي محاولة لفصل المسارات أو لتقييد تحرّك المقاومة ضمن حسابات دولية.

ومع هذا كلّه، لا يمكن إغفال البعد الشعبي والرمزي للكلمة، التي جاءت في مجلس عاشورائي، حيث تختلط السياسة بالمقدّس، والشأن المحلي بالقضية المركزية، وحيث يُعاد إنتاج سردية الصراع وفق مفاهيم تتجاوز الحدود الجغرافية. وهو ما يجعل الخطاب متماهيا مع جمهوره، لكنّه في الوقت نفسه يترك الباب مفتوحا على نقاش وطني لا بدّ منه حول السلاح، السيادة، وسبل تجنيب لبنان حربا واسعة لا يحتملها.

في المحصّلة، تطرح مواقف الشيخ نعيم قاسم إشكاليات أكثر مما تُقدّم أجوبة. هي دعوة إلى دولة فاعلة، ولكن ضمن شروط مقاومة مستمرة. وهي تحذير من استمرار العدوان، ولكن من دون تحديد سقف للرد أو كيفية احتوائه. وهي موقف تضامني مع غزة، ولكن بثمن قد يدفعه الداخل اللبناني. وهي، فوق ذلك، إعلان جهوزية للمواجهة، ولكن في وقت يتطلّب من لبنان ترتيب أولوياته، وبناء استراتيجية دفاعية جامعة تحصّن الداخل قبل الخارج.

هكذا، ومن الضاحية الجنوبية، عاد النقاش حول حدود الدولة وحدود المقاومة إلى الواجهة، في لحظة سياسية وأمنية حرجة، لا يبدو فيها أن أي طرف يملك وحده مفاتيح الحل… أو الحرب.