طهران في رقصة التحدي مع واشنطن

طهران في رقصة التحدي مع واشنطن

image

طهران في رقصة التحدي مع واشنطن
ثلاثية تفاوضية مركبة: "متى وكيف وأين"؟

 

 

اليسّا الهـاشم

الصبر الإستراتيجي أو الخضوع التكتيكي؟ بين قوة الموقع وقوة اللحظة، التكتيكات الأميركية مقابل الإستراتيجية الإيرانية. في مسرح السياسة الدولية، لا تلعب إيران لعبة الوقت فقط، بل تُتقن هندسة اللحظة كذلك. ما يبدو كهدوء على السطح يخفي تحركات دقيقة تعكس مهارة تاريخية في إدارة الصراعات وتطويع الزمن لصالحها. بين الصبر الاستراتيجي والذكاء التكتيكي، تخوض طهران معركة لا تُقاس فقط بالصواريخ أو العقوبات، بل بالتوقيت، والموقع، والموازين المتغيرة. وفي ظل تفوّق أميركي واضح في القوة العسكرية والاقتصادية، تُواجه إيران هذه المعادلة بثلاثية تفاوضية مركبة متى، وكيف وأين؟

"متى؟" تُستخدم للمناورة الزمنية، فهي تؤجل، تماطل، تنسحب، ثم تعود... كل ذلك لكسب الوقت، وامتصاص الضغوط، وبناء أوراق جديدة.

 "كيف؟" تعكس مرونة تكتيكية مصممة بعناية خطاب مزدوج بين التصعيد والتهدئة، توزيع أدوار بين أركان النظام، رسائل غير مباشرة، وتحركات مدروسة لتقليل التنازلات المباشرة دون إغلاق باب التفاوض.

"أين؟" لا تقل رمزية عن مضمون التفاوض نفسه. حيث تصرّ إيران على أماكن محايدة يؤكد رغبتها في الحفاظ على صورة ندية، وعدم التفاوض تحت سقف التأثير الأميركي المباشر، رغم اختلال موازين القوّة لصالح واشنطن.

وكان المرشد الأعلى علي خامنئي أشار في الايام الاخيرة إلى أن محادثات عُمان سارت بشكل جيد، لكنه شدد على أن التقدم يجب أن يتم بدقة، وأن الخطوط الحمراء لا تزال ثابتة، ووجّه رسالة إلى الداخل حين اكد أنه لا ينبغي ربط كل القضايا في البلاد بتقدم المفاضات.

من جهته، جاء تصريح المتحدث باسم الحرس الثوري، علي محمد نائيني، ليحدد الخطوط الحمراء بالأمن القومي والسلاح ، مؤكداً أن أي تنازل يُعد تهديداً للثوابت الوطنية الإيرانية.

وهنا يجدر التذكير أن النظام الإيراني ليس مجرد كيان سياسي، بل نظام عقائدي ديني، تُبنى فيه السياسات لخدمة العقيدة، لا العكس. من هذه الزاوية، فإن أي تصور عن الاستسلام الكامل أو التفكيك الكامل للبرنامج النووي يتناقض مع طبيعة النظام نفسه، وقد لا يكون واقعياً ضمن منطق بقائه واستمراره.

في خضم هذا المشهد المتماسك في ايران، برزت التصريحات الأميركية المتلاحقة والمتناقضة حول الاتفاق النووي بعد ساعات فقط من انتهاء مفاوضات عمان، حيث قال المبعوث الخاص ستيف ويتكوف في مقابلة مع "فوكس نيوز" إن إيران لا تحتاج لتخصيب يتجاوز 3.67%، ثم تراجع وغرّد لاحقاً أن أي اتفاق يجب أن يُنهي التخصيب بالكامل ويوقف البرنامج النووي، ضمن إطار يرسّخ السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. توازياً، صعّد الرئيس دونالد ترامب لهجته مهددا بقصف إيران لقربها من امتلاك سلاح نووي، قبل أن يعاود التأكيد على رغبته بالحوار، شرط منعها من الوصول إلى هذا السلاح.

تلك التباينات في التصريحات تثير تساؤلات جدّية فهل تعكس انقساما داخل الإدارة، أم أنها توزيع أدوار مدروس بين التصعيد والمرونة؟ وفي الحالتين، تبقى طهران متنبهة لهذه الفجوات، وتُحسن توظيفها لتعزيز هوامشها التفاوضية.

وعلى غرار إيران، يتبنى حزب الله سلوكا يُوحي بالهدوء، بينما يواصل تنفيذ عمليات دقيقة على الأرض تتخطى الحدود اللبنانية. فمنذ وقف إطلاق النار في تشرين الثاني الفائت، نفذت إسرائيل ضربات متكررة استهدفت قيادات ناشطة جنوب الليطاني وفي ضاحية بيروت الجنوبية أبرزها اغتيال حسن بدير مطلع نيسان الجاري، والمتهم بالتخطيط لهجمات خارجية. وكان قد أُعلن تزامناً عن إعتقال ثلاثة أشخاص في برشلونة بتهمة تصنيع طائرات مسيّرة متفجرة لصالح الحزب، ورجلين في لندن بتهمة تمويله. وكما هو حال طهران، فإن حزب الله ليس مجرد تنظيم مسلح، بل كيان أيديولوجي، يتحرك ضمن استراتيجية تخدم مشروعاً عقائدياً يرتبط عضوياً بإيران ما يجعل من الرهان على هدوء دائم أو تفكيك ذاتي طرحاً غير واقعي بالنظر إلى طبيعته العقائدية والسياسية.

الولايات المتحدة من جانبها، تتحرك ضمن استراتيجية شاملة تهدف إلى حماية أمن إسرائيل أولاً، وتقليص التهديدات الإيرانية في المنطقة، سواء على صعيد النووي أو النفوذ الإقليمي. تضاف إلى ذلك محاولة تهيئة البيئة الإقليمية لفتح مسارات جديدة نحو سلامٍ يضمن الاستقرار ويعزز المصالح الاقتصادية والتجارية، بما يتماشى مع رؤية الرئيس ترامب الأوسع. ولكن هذه الاستراتيجية لا تتم دون تحديات كبيرة، حيث أن إيران متمسكة بهدف مركزي وهو حماية النظام وضمان استمراريته. وفي ذات الوقت، تُراقب إسرائيل عن كثب هذه التطورات، حيث أن أمنها ووجودها مرتبطان ارتباطا وثيقاً بأي تسوية أو اتفاق، وهي لها أيضاً شروطها الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار.

في لحظة حرجة من تاريخ إيران، قال الإمام الراحل الخميني، "ويل لي لأني ما زلت على قيد الحياة لأتجرع كأس السم..." حين اضطر لقبول وقف الحرب مع العراق، فهل يكرر خامنئي العبارة ذاتها، تفادياً للمحق أم أن العقيدة ستغلب على الواقعية مرة أخرى؟

وسط تقاطع العقيدة مع السياسة، وضبابية الرسائل، والتكتيك مقابل التفوّق، يبقى المشهد مفتوحاً على كل الاحتمالات، فهل نحن أمام  تسوية تاريخية او موقتة أم نحن أمام مواجهة عسكرية؟

الزمن، كما هو دائماً، لا يعمل إلا لصالح من يُحسن قراءته وليس من يراهن عليه دون وعي.