متضرّرو الحرب ينتظرون إعادة الإعمار: دفع الأموال مرهون بالمتغيّرات
الدولة لم تحاول ترميم تصدّع الثقة مع اللبنانيين والمجتمع الدولي
خضر حسان - المدن
كثيرة هي الويلات التي مرّ بها لبنان، وعديدة هي محاولات تخطّيها والنهوض مجدداً. على أنّ أغلب تلك المحاولات طوَت صفحات الويلات على حساب المتضرّرين، والنماذج الواضحة تمتدّ من بداية التسعينيات مع إنهاء ملفّ الحرب الأهلية، وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية الأخيرة، مروراً بحرب تموز 2006 وتفجير مرفأ بيروت في آب 2020.
دفعُ المتضرّرين الثمن، كان نتيجة غياب الخطط الصحيحة لمعالجة الأزمات، وانعدام الشفافية في توزيع الأموال المتعلّقة بالتعويضات أو إعادة الإعمار، وهو النقاش الذي يتكرّر اليوم في ظل البحث عن تمويل لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب الإسرائيلية خلال الفترة الممتدّة من 8 تشرين الأول 2023 و27 تشرين الثاني 2024.
وفي محاولة لضمان إنهاء عملية إعادة الإعمار بالصورة الصحيحة، يُصرّ البنك الدولي على استقطاب التمويل لتلك العملية، انطلاقاً من صندوق خاص تُساهم فيه الدول المانحة وصولاً إلى مبلغ مليار دولار، من بينها مساهمة البنك الدولي بـ250 مليون دولار. وبالتأكيد، التمويل مشروط بالتزام الدولة اللبنانية بتنفيذ إصلاحات بنيوية، وهو شرط غير جديد، بل مكَرَّر منذ ما قبل الانهيار الاقتصادي في العام 2019، ومُستعاد بعد تفجير المرفأ، وبات محسوماً في أعقاب الحرب الأخيرة. فهل تكون الطريق سهلة أمام الصندوق المنتَظَر وأمواله؟.
تغيُّر مقاربة المجتمع الدولي
لم تستفد السلطة السياسية اللبنانية من تساهل المجتمع الدولي حيال عدم التزامها بإجراء الإصلاحات الضرورية منذ مؤتمر "باريس 1". فعُقِد "باريس 2"، ثم النسخة الثالثة، وصولًا إلى النسخة الرابعة في عام 2018، التي أُطلقت تحت اسم "مؤتمر سيدر"، في محاولة لمنحها صورة مختلفة، لكن من دون جدوى.
فقد كانت مقاربة المجتمع الدولي لحلّ الأزمة في لبنان قد تغيّرت في تلك المرحلة، إذ ربط المانحون تقديم المساعدات، سواء عبر الهبات أو القروض، بإجراء إصلاحات فعلية وجدية.
غير أن أموال مؤتمرات "باريس" السابقة لم تُستثمر في مشاريع تنموية مستدامة، بل صُرفت في سدّ عجز الموازنة وخدمة الدين العام، فبقيت الإصلاحات المطلوبة في مجالات الحوكمة، والكهرباء، والجمارك، وغيرها، حبرًا على ورق.
وتكرَّسَ المطلب الدولي مع تفجير مرفأ بيروت. فالمساعدات التي أتت إلى لبنان، وُزِّعَت بمعظمها عبر المجتمع المدني وليس الدولة، ذلك لغياب الثقة بسلطة رفضت الإصلاح رغم انزلاق البلاد لأزمة اقتصادية ومالية ونقدية واجتماعية. ورأى البنك الدولي في تقريره في نهاية شهر آب 2020، أنّه "لن تتطلب جهود إعادة الإعمار إصلاح المباني والبنية التحتية المتضررة وإعادة بنائها فحسب، ولكنها تستلزم أيضاً إعادة بناء المؤسسات وهياكل إدارة الحكم. ومن شأن تنفيذ لبنان لأجندة إصلاحية جديرة بالثقة أن يكون سبيلاً للوصول إلى مساعدات التنمية الدولية وفتح الأبواب أمام مصادر التمويل الخارجية والخاصة".
وجدّد البنك دعوته للإصلاح. وفي السياق، أطلقَ أواخر العام 2020 مبادرة "إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار" بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. وأوضحت نائبة المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان والمنسقة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية السابقة نجاة رشدي، أنّ "هذا الإطار يهدف لتلبية الحاجات الملحّة للشعب اللبناني، ومنح المواطنين صوتاً في السياسات العامة. واعتمد على مشاركة المجتمع المدني في كل المراحل". أما سفير الاتحاد الأوروبي السابق في لبنان، رالف طراف، فشدد على أن "استعادة ثقة الشعب في مؤسسات الدولة أساسية لإنجاح إعادة الإعمار، وأن الحكومة ملزمة باعتماد إصلاحات هيكلية موثوقة".
هذه الثقة لم تتسلَّل بعد إلى الشعب، فالدولة لم تحاول ترميم تصدّع الثقة. ولذلك، بقي الكثير من متضرّري تفجير المرفأ، بلا تعويضات، فأصلحوا أضرارهم من جيبهم الخاص، وهو حال بلال حمصي، أحد المتضرّرين، الذي أكّد لـ"المدن" أنّ "بعض الجمعيات أصلحت أضراراً لبعض المواطنين، لكن الدولة بقيَت غائبة". وعن تجربته قال إنّه أصلح الأضرار وكانت "بتكلفة نحو 5 آلاف دولار". حمصي الذي يسكن في آخر منطقة الخندق الغميق، بالقرب من جسر الرينغ (في بيروت)، اعتبر أنّ "على الدولة اعتماد الشفافية في دفع التعويضات". وعن إعمار ما بعد الحرب، أشار إلى ضرورة "معرفة أين تصرف أموال إعادة الإعمار. فالناس تعبت من الحروب والتفجيرات".
فرصة جديدة
في ظل التجارب السلبية للمجتمع الدولي مع لبنان، أعطى البنك الدولي فرصة جديدة ولكن مشروطة ضمناً، من خلال اقتراح إنشاء صندوق خاص لإعادة الإعمار وربط التمويل بالإصلاحات. فأوضح نائب رئيس البنك الدولي عثمان ديون، عقب إعلانه عن الصندوق خلال لقائه وزير المالية ياسين جابر، أنّه "من الضروري اتخاذ إجراءات ملموسة لدفع الإصلاحات قدماً". وبدوره قال ياسين "سنسارع في إنجاز الإصلاحات اللازمة لإقرارها في مجلس الوزراء والمجلس النيابي، كما نعمل على تسريع تنفيذ المشاريع المعتمدة والجديدة".
الوعود بالإصلاح ليست جديدة، بل هي قديمة ونابعة من السلطة السياسية نفسها، إذ ألزَمَت نفسها بالإصلاحات منذ مؤتمر باريس 1 "ولم تكن تلتزم بها"، وفق ما قاله أستاذ الإقتصاد في الجامعة اللبنانية الأمريكية خليل جبارة في حديث لـ"المدن". وأشار إلى أنّ السلطة عادت وكرّرت وعودها في مؤتمر سيدر 2018 "وتحدّثت عن إصلاحات في مختلف القطاعات ومنها الكهرباء، وهو إصلاح قُدِّم في مؤتمر باريس 2، ولم يجرِ الالتزام به، ولذلك يتشدّد المجتمع الدولي حالياً، بربط المساعدات بالإصلاحات التي لم تأتِ من الخارج أو تُفرَض على لبنان، وإنما هي إنتاج لبناني. لكن السلطة في لبنان كانت تتّبع دائماً سياسة الهروب إلى الأمام".
ورغم تجديد الوعود بالإصلاحات، رأى جبارة أنّ هناك مفارقة بين وعود الأمس ووعود اليوم: "فحكومة نواف سلام أتت ضمن عهد جديد، وأقرَّت مشروع قانون السرية المصرفية وقانون تنظيم وضع المصارف، على عكس حكومة حسّان دياب التي قرّرت عدم دفع سندات اليوروبوند، وحكومة نجيب ميقاتي التي توصّلت إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد، لكنها لم تقم بالإصلاحات بل تعهّدت بها". وأوضح جبارة أنّ "على الحكومة تأكيد التزاماتها الإصلاحية قبيل اجتماعات الربيع في واشنطن". وإلى جانب تأكيدات الحكومة، يبقى أمام السلطة السياسية اختبار تأكيد التزاماتها بالإصلاح، من خلال "إقرار مشاريع القوانين في مجلس النواب". ولفت جبارة النظر إلى أنّه "من غير المعروف كيف سيُقَيِّم صندوق النقد، إقرار القوانين من قِبَل الحكومة وليس من قِبَل البرلمان"، بمعنى هل سيكون هذا الإقرار مقبولاً خلال اجتماعات الربيع أم سيُعتَبَر إنجازاً منقوصاً.
واستباقاً لأي طارئ يتعلّق بتجديد الوعود وعدم استكمال خطوات إقرار مشاريع القوانين، حصَّنَ البنك الدولي اقتراحه للمساعدة، بإنشاء صندوق لإدارة أموال إعادة الإعمار، وبوجود الصندوق "تصبح الرقابة أسهل"، برأي جبارة الذي أوضح أنّ "هذا الصندوق هو التجربة الثالثة في لبنان، إذ كان هناك صندوق للدعم بعد حرب تموز 2006، أقرّ في مؤتمر ستوكهولم في السويد وبعده الصندوق المتعلّق بإعادة الإعمار بعد تفجير مرفأ بيروت في العام 2020، والصندوق الثالث يطال إعادة الإعمار بعد الحرب الأخيرة. وهذه الصناديق الدولية تختلف عن الصناديق المحلية مثل صندوق المهجّرين ومجلس الجنوب وغيرها".
واستناداً إلى طريقة تعامل البنك الدولي ومن خلفه المجتمع الدولي مع تمويل إعادة الإعمار، يبدو واضحاً أنّ المجتمع الدولي يريد إدارة مستقلّة ومهنية للصندوق وآلية صارمة لتقديم الأموال، وإجراء المناقصات ضمن معايير الشفافية الدولية، وهو أمر مهم لاستقطاب المموّلين. وهنا، يمكن العودة إلى ما قاله ديون حول أنّ "الرقمنة ستلعب دوراً محورياً في تسهيل بيئة الأعمال وجذب الشركاء".
تعيينات مجلس الإنماء والإعمار ضرورة
مع العهد الجديد، يرسل المجتمع الدولي بعض الإشارات الإيجابية تتمثّل في إشراك مؤسسات الدولة في إدارة إعادة الإعمار. ومع ذلك، لا بدّ من الإصلاحات داخل هذه المؤسسات. فكان اختيار البنك الدولي لمجلس الإنماء والإعمار جهةً للتعاون معها لإنجاز المشاريع الإعمارية في المستقبل.
ورغم أنّ المجلس هو مؤسسة مستقلة ولديها صلاحيات موسعة ويخضع مباشرة لمجلس الوزراء عن طريق رئيس مجلس الوزراء، ورغم خبرة تنفيذ المشاريع منذ التأسيس في العام 1977، إلاّ أنّ التجربة لم تُقنِع البنك الدولي، فطلب إستكمال ملء الشغور في إدارة المجلس، وهذا ما يعكس انعدام الثقة بقدرة المجلس بصورته الحالية، على إتمام مهامه.
يرحّب جبارة بقرار إجراء التعيينات في المجلس. وبالنسبة إليه، فإنّ "إجراء الإصلاحات الهيكلية ستُمكِّن المجلس من إدارة عملية إعادة الإعمار، خصوصاً في ما يتعلّق بمشاريع البنية التحتية". على أنّ هذا الخيار يبقى مرهوناً أيضاً بمتغيّرات أخرى. فبنظر جبارة، لا تكفي الإصلاحات في هيكلية المجلس، لإطلاق عجلة تمويل إعادة الإعمار، إذ أنّ "وجود مانحين آخرين سيقدّمون أموالهم ضمن صندوق إعادة الإعمار، فهؤلاء قد يشترطون إتمام لبنان اتفاقه مع صندوق النقد، لتقديم المساعدات المالية بعد التماس الثقة". وبالتالي، رأى جبارة أنّنا "نعود دائماً لمسألة الإصلاحات والوصول إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد. ولذلك، حتى مبادرة البنك الدولي، مرهونة بالثقة التي سيمنحها الاتفاق مع صندوق النقد".
وإلى جانب الإصلاحات المطلوبة دولياً لضمان نجاح تنفيذ العملية، فإنّ التلزيمات والمشاريع التي سيقوم بها المجلس محلياً، ستخضع لرقابة ديوان المحاسبة، سنداً للمادة 12 من المرسوم الاشتراعي رقم 5 تاريخ 31/01/1977، المتعلّق بإنشاء مجلس الإنماء والإعمار. وتنصّ تلك المادة على أن "يخضع المجلس لرقابة ديوان المحاسبة المؤخّرة طبقاً لنظام خاص يضعه مجلس الإدارة بالاتفاق مع ديوان المحاسبة ويوافق عليه مجلس الوزراء".
وفي حديث لـ"المدن"، أوضح رئيس الديوان محمد بدران، أنّ "الرقابة أساس أيّ مشروع، وبدونها ستكون الفوضى". وأضاف أنّ الرقابة "تضمن حُسن استخدام المال العام، ويتم ذلك من خلال وضع استراتيجيات للعمل ولصرف المال، كي لا تكون النتيجة مشاريع غير مكتملة أو تشوبها الأخطاء". وأكّد بدران أنّ "سلطة الديوان بالرقابة اللاحقة كبيرة جداً. والرقابة لا تتعلّق فقط بتنفيذ المشروع، وإنما أيضاً بالالتزام بالمهل الزمنية وبالأكلاف المالية المحددة".
وتتجلّى صرامة الديوان في إجراء الرقابة، من خلال متابعة تقاريره حول مشاريع موّلتها جهات مانحة، ومنها البنك الدولي، ونفّذها المجلس، ومن ضمنها، على سبيل المثال لا الحصر، التقرير الأخير المتعلّق بـ"إدارة منظومة الصرف الصحّي". وفي بعض الملاحظات على المشاريع، كمشروع تصميم وتنفيذ محطة تكرير المياه المبتذلة في إيعات، والمموّل من البنك الدولي بنسبة 85 بالمئة ومن الدولة اللبنانية بنسبة 15 بالمئة، خلص الديوان إلى أنّه "في ضوء المعطيات، فإنّ قيمة العقد الأساسية للمشروع قد شهدت تعديلاً مالياً لا يستهان به، مما يشير إلى سوء التخطيط وضعف التنسيق بين الجهات المختلفة المسؤولة عن تنفيذ مشاريع البنى التحتية". وفي تقييم آخر، خلص الديوان إلى أنّ "مجلس الإنماء والإعمار كان مدركاً لمشكلة الملوّثات ومدى خطورتها وسعى إلى حلّ هذه المعضلة أثناء التنفيذ، إلاّ أنّ هذا الأمر يشير إلى عدم كفاءة التخطيط والدراسات". وهذه المعطيات، تشير بحسب بدران، إلى "كيف تجري عملية الرقابة في ديوان المحاسبة".
في المحصّلة، ومع أنّ ديون أوضح أنّ البنك لا يفرض شروطاً، لكن التشديد على الإصلاحات، خصوصاً داخل الجهة التي ستتولّى العمل على أرض الواقع، فضلاً عن "استمرار وجود الأسباب التي عطّلت الحلول منذ آذار 2020"، كما قال جبارة، تبقى هي نفسها "تحديات وشروط أمام إعادة الإعمار". وبذلك، يعيد البنك الدولي رمي الكرة في ملعب السلطة السياسية في لبنان، فإمّا تحقيق شروط دفع الأموال، وإمّا البقاء في دوامة الانتظار. لكن جبارة متفائل جزئياً، لأنّ "الحكومة اليوم، هي جهة جديدة تدير الأزمة في ظل العهد الجديد".
واللافت للنظر، أنّ احتياجات التمويل كبيرة جداً وتتخطّى ما يمكن تأمينه من قِبَل الصندوق المنتَظَر، فالبنك الدولي قَدَّرَ في تقرير له في آذار الماضي، أنّ احتياجات إعادة الإعمار والتعافي، هي بنحو 11 مليار دولار، ما يعني أنّه لا مفرّ من كسب ثقة المانحين لتقديم الأموال اللازمة.