اللواء- في خطوة جريئة وضرورية، اتخذت الحكومة في جلستها الأخيرة الأسبوع الماضي قراراً استراتيجياً ومصيرياً يتعلق باستقلالية القضاء، وهو قرار لا شك في أنه سيسهم بشكل كبير في بناء نظام قضائي قوي وشفاف، بعيد عن أي تدخّلات سياسية أو طائفية قد تؤثر في سير العدالة. ويعتبر هذا القرار حجر الزاوية في عملية الإصلاح التي يتطلبها الوضع الراهن في لبنان، كما لا يمكن فصله عن المناخ الإصلاحي العام، إذ تحاول الحكومة، تسجيل نقاط إيجابية في ملف الإصلاح، وإظهار نية جديّة في التجاوب مع المطالب المحلية والدولية.
فاتخاذ مثل هذا القرار في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان يُعدّ إشارة قوية إلى أن الحكومة اللبنانية جادّة في مسار الإصلاحات التي طالما طال انتظارها. إذ إن ضمان استقلالية القضاء ليس فقط خطوة قانونية، بل هو أيضاً خطوة معنوية تعكس التزام الحكومة برؤية أكثر شفافية وعدالة. في ظل الأزمات التي يواجهها لبنان، من الاقتصاد إلى السياسة، كان القضاء في العديد من الأحيان ساحة لتدخّلات سياسية قُيّدت استقلاليته، وهو ما جعل هذه الخطوة أكثر أهمية. وهي بمثابة تأكيد على بدأ عملية من شأنها تصحيح الكثير من الاختلالات الهيكلية التي كان يعاني منها القضاء اللبناني.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى الدور المحوري الذي لعبه رئيس مجلس الوزراء القاضي نواف سلام، الذي دعم هذا القرار بقوة، وجعل من مسألة استقلالية القضاء أولوية في جدول أعماله، لبناء لبنان جديد قائم على دولة المؤسسات.
من هنا، وبعد أن أصبح هذا القرار سارياً، يبقى على المجلس النيابي إقرار القوانين اللازمة لتفعيل هذا المشروع، الذي من شأنه تعزيز دور القضاء في المجتمع اللبناني. وليثبت لبنان قدرته على تجاوز تحدياته الداخلية، وبناء نظام قضائي يضمن تحقيق العدالة والمساواة لجميع المواطنين.
وحول هذا الموضوع، يقول الرئيس السابق لمجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر لـ«اللواء»: «ان قانون استقلالية القضاء قد وضع منذ عهد الرئيس حسين الحسين، ونحن نعيش هذه الدوامة؛ يُتخذ القرار، ثم يُعاد إلى اللجان، ثم يُرفع إلى الهيئة العامة، ليُسترد منها مجدداً ويُعاد إلى اللجان. هكذا استمرت العملية لأكثر من عشرين عاماً. علما ان قانون استقلالية القضاء هو تعديل لقانون القضاء العدلي الذي ينظم القضاء».
وأشار صادر إلى أننا نشهد حالياً حركة جدّية داخل العدلية، نتيجة وجود تناغم بين وزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى. وأوضح أنه في السابق، كان الوزراء يمثلون السلطة السياسية ويحملون مطالبها، ما كان يؤثر على عمل القضاء. أما الوزير الحالي، فقد جاء بنهج مختلف، من خلال تأكيده على تحييد السلطة السياسية عن القضاء، لبناء قضاء مستقل، وهذا النهج كنا ننتظره منذ أربعين عاماً.
ولفت إلى أنه حين اتفق الطرفان، بدأت النهضة القضائية، من خلال بداية ملء المراكز الشاغرة في مجلس القضاء الأعلى، وخاصة المناصب الأساسية مثل النائب العام التمييزي ورئيس التفتيش القضائي، مع وجود رئيس مجلس القضاء، فهذه المراكز باتت مكتملة، كذلك تم تعبئة المراكز الأخرى بعد أن فَقدَ المجلس في وقت من الأوقات النصاب القانوني، ليعود المجلس ويستعيد نصابه ويباشر مهامه.
ولفت صادر الى ان مشروع قانون القضاء العدلي الجديد وضع إصلاحات هامة، واقترح تعديلات أساسية في آلية تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى، بحيث يكون خمسة قضاة معينين وخمسة منتخبين، لخلق حالة من التوازن السياسي والقضائي، تمنع هيمنة أي طرف، وتراعي الواقع الطائفي والسياسي. كذلك، منح المشروع استقلالية مالية للقضاء، بحيث لم يعد رئيس مجلس القضاء الأعلى أو هيئة التفتيش القضائي بحاجة لانتظار توقيع الوزير لشراء أبسط الاحتياجات كالأوراق أو الحبر.
واعتبر صادر أن مجلس النواب تلقّى إشارة إيجابية، بأن الحكومة متوافقة مع القضاء، ولا وجود لخلافات بينهما، حين كانت بعض القوى تستفيد من التباين بين السلطات. أما اليوم، فالاتفاق قائم بين السلطتين التنفيذية والقضائية على هذا القانون الذي يُكرّس استقلالية القضاء، وبالتالي، لا يوجد أي مبرر لعدم تصديق المجلس النيابي عليه، وبمجرّد أن يُصدّق عليه المجلس، يصبح قانوناً نافذاً.
ولفت صادر إلى أن إقرار قانون استقلالية القضاء هو أحد مطالب المجتمع الدولي، باعتبار أن القضاء هو أحد الركائز الأساسية لبناء دولة القانون.
وختم بشكر مجلس الوزراء على إقرار القانون، وبتوجيهات رئيس الجمهورية، والتي تُشكّل خطوة إصلاحية جذرية في القضاء، وهو أمر يبشّر بالخير.
من هنا، فإن استقلالية القضاء تمثل الأساس الذي يُبنى عليه المستقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبنان. ومع هذه الخطوات الجريئة، يكون لبنان قد بدأ رحلة جديدة نحو بناء دولة مؤسسات حقيقية، قادرة على إرساء قواعد العدالة والمساواة بشكل شامل. ومع دعم الحكومة ورئيسها، ستستمر هذه الإصلاحات حتى تحقق نتائجها المرجوة.