نحو معالجة عقلانية لسلاح المخيمات الفلسطينية في لبنان
مقاربة هذا الملف من زاوية أمنية فقط تُعد قاصرة وقابلة للانفجار في أي لحظة
داود رمال - "نداء الوطن"
يعود طرح جعل المخيمات الفلسطينية في لبنان خالية من السلاح إلى الواجهة من جديد، مدفوعاً بضرورات أمنية وسياسية واجتماعية تتداخل فيها الحسابات اللبنانية والفلسطينية، كما الإقليمية والدولية. غير أن معالجة هذا الملف الشائك لا يمكن أن تتم بعقلية الفرض أو التهديد، بل تستوجب مقاربة عقلانية تتكئ على التفاهم والتدرج، وتحفظ أولاً أمن اللاجئين الفلسطينيين وكرامتهم، وتمنع في الوقت نفسه تحول المخيمات إلى خاصرة رخوة يستغلها المتربصون عند أول فرصة.
إن مقاربة هذا الملف من زاوية أمنية فقط تُعد قاصرة وقابلة للانفجار في أي لحظة، فالتعامل مع السلاح الفلسطيني خارج أي سياق شامل سيكون انتقائياً وقد يتحول إلى عامل استفزاز بدل أن يكون مدخلاً للحل. كما أن أي مقاربة من هذا النوع، بمعزل عن البيئة الحاضنة والضمانات الضرورية، يمكن أن تتحول إلى وصفة جاهزة لانفجار أمني لا تُحمد عقباه.
تسليم السلاح داخل المخيمات، بصفته خياراً مطروحاً، لا يمكن عزله عن ضرورة توفير ضمانات من الدولة اللبنانية، وهذه الضمانات لا تقتصر على البعد الأمني، بل تتعداه إلى البعدين الإنساني والاجتماعي. فالفلسطيني المقيم في المخيم لا يشعر بالأمان فقط من خلال انتشار القوى الأمنية، بل من خلال شعوره بالعدالة والكرامة والحقوق. في هذا السياق، لا يمكن إغفال ما بدأه وزير العمل الأسبق كميل أبو سليمان حين فتح ملف الحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين، وطرحه من زاوية قانونية وإنسانية تستحق البناء عليها وتطويرها، لأنها المدخل الحقيقي لأي حل جذري يُنهي الشعور بالتهميش ويؤسس لشراكة في حفظ الأمن بدلاً من منطق العزل والوصاية.
أما من الناحية القانونية والسياسية، فإن المخيمات الفلسطينية الواقعة جنوب نهر الليطاني، تنطبق عليها من الناحية العملية أحكام القرار 1701 واتفاق وقف الأعمال العدائية، ما يعني وجوب جعل كامل هذه المنطقة منزوعة السلاح، وهذا الأمر متيسر وسهل، أما المخيمات شمالي الليطاني فتحتاج إلى عدم التسرّع في إخراج الحل على الأرض، من دون توفير البيئة الحاضنة له، لأن من شأن التسرّع أن يفتح الباب أمام فوضى أمنية لا تقل خطورة عن السلاح نفسه، خصوصاً أن المخيمات لا تزال نقطة تقاطع لمصالح أطراف متعددة، محلياً وإقليمياً، وهي ليست جزيرة معزولة، بل هي جزء من نسيج أكثر تعقيداً من أن يُعالَج بقرارات فوقية لا تأخذ بالاعتبار تلك التداخلات.
الحل العقلاني يبدأ أولاً بتطمين الشعب الفلسطيني المقيم في هذه المخيمات، لناحية أمنه وحمايته، لا نزع سلاحه قبل أي بديل واقعي، وإقرار حقوقه المدنية والاجتماعية الكاملة، بما يسمح له بأن يعيش بكرامة من دون أن يشعر بأنه مستهدف أو منبوذ أو مهدد في لقمة عيشه ومستقبله.
ثانياً، فتح حوار فلسطيني داخلي بين الفصائل كافة، من دون استثناء أو تهميش لأي طرف، للتوافق على آلية تعاون ومعالجة موحدة تضمن الالتزام الجماعي بعدم استخدام المخيمات لأي غرض عسكري، وعدم ترك فراغ أمني داخل أي مخيم، وهو أمر ممكن في ضوء تجارب سابقة ناجحة في التنسيق المشترك داخل المخيمات، كما حصل في عين الحلوة بعد الأزمات الأخيرة.
ثالثاً، وقف أي تدخل خارجي من شخصيات أو جهات فلسطينية لا تدرك تعقيدات الساحة اللبنانية، والتي غالباً ما تسعى إلى تصفية حسابات شخصية. ويجب ترك الملف بأيدي الجهات التي أثبتت فهمها العميق للواقع اللبناني الفلسطيني، وعلى رأسها سفارة دولة فلسطين، بقيادة السفير أشرف دبور، الذي تمكن على مدى أكثر من عقد من إدارة هذا الملف بتوازن ودراية، وحمى المخيمات من التحول إلى بؤر صراع خلال أعنف المراحل التي عصفت بالمنطقة، بدءاً من الأزمة السورية وصولاً إلى الخروقات المتكررة للقرار 1701. وقد كانت لافتة الإشادات اللبنانية المتعددة بدوره أمام الرئيس محمود عباس، ما يؤكد أنه الأقدر على متابعة هذا الملف الشائك مع الدولة اللبنانية.
ومن المفارقة أن يُطرح موضوع سلاح المخيمات بهذه الحساسية، فيما الاحتقان داخل المخيمات بلغ ذروته نتيجة مواقف بعض أعضاء الوفد الفلسطيني الزائر إلى لبنان، مما يحتّم تفادي أي توتر إضافي في هذه اللحظة الدقيقة، إذ إن أي خطوة خاطئة قد تفتح الباب أمام انفلات أمني وظهور جماعات متطرفة أو خلايا نائمة تبحث عن فرصة لاختراق المخيمات وفرض أجنداتها. في هذا السياق، يبرز تساؤل مشروع: إذا ما قامت منظمة التحرير الفلسطينية - على سبيل الافتراض - بتسليم سلاحها، فهل يضمن ذلك ألا تتحول المخيمات إلى ساحة تستقطب الجماعات التكفيرية؟ وهل سيتوفر من يملأ هذا الفراغ أمنياً واجتماعياً وسياسياً؟ من هنا، يتضح أن المسألة ليست بهذه البساطة، وأن المطلوب ليس فقط نزع السلاح، بل بناء بنية متكاملة تحصّن المخيمات من أي اختراق أو انزلاق.
لا يحتاج ملف سلاح المخيمات إلى مجانين يُشعلون الحروب من خلف الميكروفونات أو البيانات الشعبوية، بل إلى عقلاء قادرين على تحييد المخيمات عن الحروب، كما حصل في السنوات الماضية رغم اشتعال الإقليم. في النهاية، الرهان هو على الحكمة، وعلى وجود قيادة لبنانية حريصة وعاقلة، كرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، تدرك أن حل هذا الملف ليس بالسلاح، بل بإزالة أسبابه، وبفتح نوافذ الحل والتفاهم، لا الأبواب الخلفية للانفجار. المخيمات الفلسطينية في لبنان ليست عبئاً بل مسؤولية، والتعامل معها يتطلب شجاعة وواقعية، لا شعارات وتهديدات.