الأسد الصاعد": الأفضلية لقطع "الرؤوس" وتعطيل "القيادة والسيطرة"؟
بدأت قبل سنوات ومهّدت لها بتدمير قواعد صواريخ الـ "S400 " والشبكات الصاروخية في سوريا والعراق
الجمهورية - جورج شاهين
بمعزل عمّا ستنتهي إليه الحرب الإسرائيلية على إيران وقياداتها ومنشآتها النووية وقواعدها العسكرية الكبرى، سيكتب التاريخ من اليوم صفحة جديدة في المنطقة والعالم. فعملية "الأسد الصاعد" لم تكن بنت ساعتها، وقد تمّ التمهيد لها منذ سنوات، وتحديداً منذ اللحظة التي انطلقت فيها عملية "طوفان الأقصى" واتهام طهران بالوقوف خلفها. وعليه، ما الذي ميّز هذه العملية عدا عن استهدافها منذ اللحظة الأولى قادتها العسكريِّين ومواقع القيادة والسيطرة من دون استثناء المنشآت النووية؟ وما الذي يعنيه ذلك؟
سيَسيل حبر كثير في الحديث عن العملية العسكرية الإسرائيلية في إيران، ولا سيما ما يتصل بتوقيتها وشكلها ومضمونها، وما يمكن أن تنتهي إليه من نتائج في الداخل الإيراني والجوار وصولاً إلى مروحة الحلفاء على امتداد القارات الست في العالم. ذلك أنّها فاقت بكل المعايير كل تصوّر محتمل يمكن أن تقوم به الدولة العبرية ضدّ دولة واقعة على مسافة آلاف الكيلومترات من أراضيها، واختيار الأهداف الاستراتيجية الموجعة لتكون أهدافاً يُمكن المَسّ بها - من دون أن تكون لها أي انعكاسات نووية أو كيماوية على إيران وخارج أراضيها، كان يُخشى من أن تكون نتيجة حتمية لأي ضربة تطاول المفاعلات النووية مباشرة - التي قد تُغيّر من مجرى الأحداث متى انتهت وقائعها ومتى بوشرت المفاوضات في اليوم التالي لنهايتها للاستثمار في ما تحقق وما يمكن أن تقدّمه إيران من تنازلات. وهي سيناريوهات يمكن توقّعها من اليوم، وسط اعتقاد كثر أنّها باتت على قابَ قوسَين أو أدنى من أن تُقدّم نموذجاً فريداً لم يكن يتوقعه أحد من قبل. قياساً على ما كشفته العمليات الحربية من فقدان معظم وسائل الدفاع الاستراتيجية التي تحدّثت عنها إيران، وكان يمكنها أن تعوق العملية العسكرية غير المسبوقة وتقلّل من خطورتها والحدّ من خسائرها.
على هذه الخلفيات، تعترف مراجع عسكرية وديبلوماسية مطلعة تواكب مجرى العلاقات الإسرائيلية - الأميركية، وخصوصاً ما يتصل منها بالملف النووي الإيراني، في مرحلة اعتقد البعض أنّ المواقف الأميركية ثابتة إلى درجة فضّلت فيها الخيارات الديبلوماسية في معالجتها لهذا الملف، فيما كانت إسرائيل تُصرّ على أنّ لا حَلّ لهذه الأزمة سوى بالضربة العسكرية التي يمكن أن تقوّض القدرات الإيرانية وإلحاق أكبر ضرر ممكن بالمنشآت النووية بهدف وقف نموّها وتقليص نسبة عمليات التخصيب إلى الدرجة المدنية وتدمير القدرات العسكرية الاستراتيجية للجيش الإيراني والحرس الثوري ومواقع القيادة والسيطرة التابعة لها على كل المستويات القيادية التي يمكن أن تشلّ قدراتها على المدى القريب.
ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل، فقد كشفت المراجع الديبلوماسية والعسكرية عن بعض المؤشرات الأولية التي يمكن أن تقدّم صورة مسبقة للعملية، ويمكن الإشارة إليها وفق المعايير التالية:
- في التوقيت، يبدو واضحاً أنّ إسرائيل تمكنت من تغيير وجهة نظر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتقديم الخيارات الديبلوماسية على العسكرية. فكان اتفاق على الالتزام بمهلة الأيام الـ60 التي أعطاها ترامب للإيرانيِّين للتوصّل إلى اتفاق قبل أن يتفلّت من أي تعهّدات أخرى. ولذلك، جاءت الضربة بموافقة أميركية مسبقة لا يمكن التنكّر لها في اليوم التالي لنهاية المهلة الترامبية، فكان مسلسل الغارات التي نُفِّذت بطريقة شاملة ضدّ أهداف قيادية عسكرية وسياسية مسّت سلامة المرشد الإيراني علي خامنئي في مقرّه عند استهدافه، عدا عن اغتيال مستشاره علي شمخاني في فراشه.
- أمّا في الوقائع، فيمكن الاكتفاء بالإشارة إلى لائحة الخبراء النوويِّين المستهدفين، ومواقعهم المتقدّمة في بناء وإدارة هذا القطاع، إلى جانب القادة العسكريِّين في أركان الجيش والحرس الثوري الإيراني وقيادة القوة الجو-فضائية والمواقع العسكرية المركزية والمراقد الدينية المعسكرة التي شملتها الغارات منذ اللحظات الأولى لانطلاقها، لتؤكّد حجم الخرق الإسرائيلي للجبهة الداخلية الإيرانية العسكرية منها والمخابراتية وتلك المتصلة بالمنشآت النووية بطريقة مذهلة.
ولذلك، كانت الضربة الأولى هي الأكثر إيلاماً - خصوصاً إن ثَبُتَ أنّ إسرائيل استخدمت قواعد عسكرية لها موقتة لها أُنشئت على الأراضي الإيرانية - لما يمكن أن تؤدي إليه العملية من شغور في المواقع القيادية ولو في الساعات الأولى للمواجهة. وهي وإن ملأ الإمام الخامنئي المراكز التي شغرت في ساعات قليلة، فذلك لا يعني أنّ الأمور تجري على ما يرام. فحال البلبلة على مستوى القيادة قد انعكست على مجرى العمليات العسكرية ودقتها وسرعة استخدامها وفاعليّتها. وإنّ ما أصاب شبكات الإنترنت في البلاد من شلل شبه كامل زاد في الطين بلّة، وكل ذلك كان كافياً لتعيش المؤسسات العسكرية الإيرانية حالة ترف بـ "العمى العسكري".
ولذلك، كانت الردود الأولية والفورية بلا نتيجة عملية، لأنّ طائراتها المسيّرة أُسقِطت قبل أن تدخل الأجواء السورية والأردنية في طريقها إلى أراضي الدولة العبرية، في انتظار أن تعلن الدول الأخرى التي يمكن أن تستخدم طهران أجواءها في الطريق التي سلكتها الصواريخ والمسيّرات الإيرانية، لاستهداف الأراضي الفلسطينية المحتلة، عمّا شهدتها أجواؤها.
- أمّا في الأهداف، فلا يمكن لأي خبير عسكري استراتيجي أو أي مرجع ديبلوماسي قراءة النتائج التي يمكن أن تفضي إليها العملية منذ اليوم. ومن السخرية إقفال النقاش حول ما يمكن أن تنتهي إليه من نتائج قد تمسّ الملف النووي في صلب أهدافه وقدراته، وما يمكن أن تتقدّم إيران في تطويره وخصوصاً على مستوى التخصيب، توصّلاً إلى امتلاكها السلاح النووي بما فيها تزويد رؤوس الصواريخ البالستية بهذه القدرات التدميرية الهائلة. وكل ما يمكن التوقف عنده، أنّ تل أبيب ستبقى في إطار توصيف العملية والآلية التي لجأت إليها لتكون ضربة صاعقة، في مرحلة ثَبُتَ لديها أنّ ما قامت به سابقاً من تدمير قواعد صواريخ الـ S400 في الداخل الإيراني والوسائط الشبيهة لها في العراق وسوريا وغيرها من مقوّمات الدفاع الجوي، قد دُمِّرت أو استنزفت فعاليّتها منذ سنوات عدة، ولا سيما في ضربة الخريف الماضي التي سبقت سقوط الرئيس بشار الأسد وما سبقها وتلاها من عمليات مهّدت للضربة الكبرى.
وعليه، فقد تميّزت اللحظات الأولى للعملية بتطبيق نظرية "قطع الرؤوس القيادية" وضرب وتعطيل "مواقع القيادة والسيطرة" وتعطيلها قبل استهداف القواعد والمنشآت العسكرية المتمِّمة لها. وهو ما سمح للطيران الإسرائيلي ومَن وفّر له الخدمات الجوية واللوجستية في عملية بعيدة المدى بهذا الشكل، للقيام بهذه المهمّة الكبرى براحة مطلقة وبالقدرات الكبيرة المتوافرة، وفي أفضل الظروف التي تحتاجها عملية من هذا النوع، لتأتي بالحدّ الأقصى من ثمارها.