الأطعمة والإشعاع الخفي: أيّ غذاء يبقى خطرًا حتى بعد الغسل والطهي؟

الأطعمة والإشعاع الخفي: أيّ غذاء يبقى خطرًا حتى بعد الغسل والطهي؟

image


الأطعمة والإشعاع الخفي: أيّ غذاء يبقى خطرًا حتى بعد الغسل والطهي؟
أختصاصيّة تغذية تقدّم توصيات للتعامل الآمن والوقاية!

ندى عبد الرزاق - الديار
 
في زمن تتصاعد فيه التهديدات العسكرية وتتكرر حوادث التسربات النووية والبيئية، لم تعد سلامة الغذاء ترفا غذائيا، بل أصبحت قضية صحية ملحّة تمسّ كل بيت. فبعيدا عن التلوث الظاهر الذي يمكن إزالته بالغسل أو الطهي، يكمن خطر أكثر خفاءً: التلوّث الإشعاعي الداخلي، حيث تمتص بعض الأطعمة نظائر مشعة من التربة أو المياه وتحتفظ بها داخل بنيتها، لتدخل السلسلة الغذائية دون أن تظهر عليها أي علامات أو طعم أو رائحة غريبة.

هذه الحقيقة العلمية المعقّدة تستدعي وعياً غذائيا جديدا، خصوصا في مناطق معرّضة لاحتمالات عدوان أو انفجارات ملوِّثة. فبعض الأغذية مثل الفطر البري، الأسماك الكبيرة، الحليب الطازج، الخضراوات الجذرية والتوت، أظهرت قدرة عالية على الاحتفاظ بالسيزيوم-137 أو السترونتيوم-90، حتى بعد المعالجة. والخطر يتضاعف حين يغيب الفحص الرقابي أو تُستهلك الأغذية من مصادر غير موثوق بها.

 
وفي ظل هذا الواقع، تصبح النصائح الغذائية والاحترازية ضرورة حياتية: من معرفة الأطعمة الأكثر عرضة للتلوّث، إلى تخزين الأغذية الآمنة، واختيار ما يدعم الجسم في التخلّص من السموم الإشعاعية، كالبوتاسيوم، الكالسيوم، اليود، الألياف، والبكتين.

في جميع الأحوال، التحذير لم يعد نظريا، مع تصاعد المخاطر البيئية، خاصة في مناطق الجنوب والبقاع، اذ يصبح التعامل مع سلامة الغذاء بمنهج علمي وقائي مسؤولية مشتركة بين الدولة والمواطن، حيث لا مجال للاستهانة بما لا يُرى.

أطعمة تحتفظ بالإشعاع داخليا... سبل التحقق من سلامتها "ممكن"!

توضح اختصاصية التغذية كاتيا قانصو لـ "الديار" أن "بعض الأطعمة تحبس الإشعاع داخل أنسجتها حتى بعد الغسل أو الطهي، بسبب امتصاصها لعناصر مشعة كالسيزيوم-137 أو السترونتيوم-90 من التربة أو المياه أثناء نموها، أو نتيجة تعرضها المباشر لتساقط نووي. ويُعرف هذا النوع من التلوث "بالتلوث الإشعاعي الداخلي"، وهو أخطر من التلوث السطحي الذي يمكن إزالته بالغسل".

 
وتقول: "من أبرز هذه الأطعمة، الفطر البري الذي يمتص الإشعاع من التربة بكفاءة عالية، والتوت البري وبعض أنواع الفاكهة البرية، إلى جانب الأسماك والمأكولات البحرية، خصوصا الكبيرة منها كالتونة التي تتكدس فيها المواد المشعة بمرور الوقت. كما تشمل القائمة الحليب ومشتقاته الناتجة من مواشٍ ترعى على أعشاب ملوثة، واللحوم من حيوانات تغذت على نباتات أو مياه ملوثة. أيضا الخضراوات الجذرية مثل البطاطا والجزر والبنجر معرضة أيضا، كونها تنمو على تماس مباشر مع التربة. أما الأرز والحبوب، فهي أكثر قابلية لامتصاص الماء، ما يجعلها عرضة للتلوث إذا استخدمت مياه ملوثة في ريّها أو إعدادها".

وتحذر من أن "التلوث الإشعاعي لا يُكتشف بالحواس، إذ لا يغيّر طعم الطعام أو رائحته أو لونه، ما يستدعي الاعتماد على أدوات علمية دقيقة. يُعدّ عداد "غايغر" أداة أولية قد تكشف النشاط الإشعاعي، لكنه محدود الدقة، في حين يبقى التحليل المخبري باستخدام أجهزة الطيف الإشعاعي الوسيلة الوحيدة الدقيقة لتحديد نوع وكميّة النظائر المشعة في الغذاء".

 
وتوصي "بشراء الأطعمة من مصادر موثوق بها وتجنّب الأغذية البرية أو الواردة من مناطق معروفة بتعرضها لتلوث إشعاعي. كما تدعو إلى مراجعة نتائج الرقابة الغذائية التي تنشرها الجهات الرسمية أو المنظمات الدولية كمنظمة الصحة العالمية أو الوكالة الدولية للطاقة الذرية.  فالاستيثاق من سلامة الطعام لا يتحقق إلا بالتوعية، مراجعة الخبراء، والالتزام بتوصيات السلامة، لأن بعض الأطعمة تبقى أكثر عرضة للتلوث، حتى إن لم يظهر عليها ذلك بشكل مباشر".

‎ الابتعاد عن بعض المأكولات الى متى؟ تجيب "ان الفترة التي ينصح خلالها بتفادي استهلاك الخضراوات الطازجة أو الحليب ومشتقاته بعد حادثة تسرب إشعاعي، تعتمد على مجموعة من العوامل، أبرزها نوع النظائر المشعة المتسربة، مثل اليود-131، السيزيوم-137، والسترونتيوم-90، إضافة إلى كمية التلوث، والظروف المناخية المحيطة كالأمطار التي قد تسرّع من انتقال الإشعاع إلى التربة، فضلا عن مدى انتشار التلوث في البيئة المحلية، من الهواء إلى التربة والمياه".

وبحسب ما تشرح قانصو: "فإن لليود-131 نصف عمر إشعاعي يقدّر بحوالى ثمانية أيام، وهو يتميز بقدرته السريعة على التراكم في الحليب والخضراوات الورقية عقب التسرب. لذلك، توصي المنظمات الصحية العالمية بتجنّب استهلاك المنتجات الطازجة، لا سيما الحليب والخضر الورقي، لمدة لا تقل عن أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع بعد الحادثة، أو حتى صدور إعلان رسمي من الجهات المختصة يؤكد زوال الخطر. وتلفت إلى أن خطورة هذا النظير تكمن في احتباسه في الغدة الدرقية، ما يجعله مهددا صحيا للأطفال والحوامل على وجه الخصوص".

 
أما السيزيوم-137، الذي يبلغ نصف عمره الإشعاعي نحو ثلاثين عاماً، فيبقى في التربة لفترات طويلة ويمتصه النبات بسهولة، ما يجعل خطره أكثر استدامة. وتشير إلى أن مجرد التوقف عن تناول المنتجات لبضعة أسابيع لا يكفي، بل يستوجب الأمر فحوصات إشعاعية رسمية للمواد الغذائية، وقد يصل إلى ضرورة منع الزراعة في المناطق الملوثة لعدة سنوات، بحسب شدة التلوث.

وفي ما يخص السترونتيوم-90، الذي يمتد نصف عمره إلى 29 سنة، فانه يتراكم في العظام والأسنان، ويدخل إلى السلسلة الغذائية من خلال الحليب والخضراوات الورقية، ما يستدعي اتباع التوصيات ذاتها الخاصة بالسيزيوم-137.

وخلال فترة الخطر، تنصح قانصو: "بأكل الأطعمة المحفوظة أو المعلبة التي تم إنتاجها قبل وقوع الحادثة، والابتعاد عن شرب الحليب الطازج أو تناول الخضر الورقية المحلية. وينبغي غسل الأطعمة جيدا، رغم أنه لا يزيل التلوث الداخلي، والالتزام بتعليمات الجهات الرسمية وعدم الانجرار خلف الشائعات، مع التأكد من أن مياه الشرب آمنة ونظيفة ومأخوذة من مصادر موثوق بها، مشددة على أهمية عدم اتخاذ قرارات فردية بشأن استهلاك الأطعمة في مثل هذه الحالات، بحيث ان المصدر الوحيد المعتمد لتقييم مدى أمان الغذاء هو التوجيهات الصادرة عن السلطات المختصة".

الخطر قائم... والتخزين الذكي "ضرورة"!

وتبين أن "أي تسرّب إشعاعي أو كيماوي نتيجة عدوان جديد قد يجعل مناطق الجنوب أو البقاع غير محصّنة بالكامل، لا سيما في ظل السوابق في استخدام القنابل الفوسفورية والذخائر السامة التي تلوّث التربة والمياه. وتُضاف إلى هذا المشهد حرارة الصيف التي تفاقم المخاطر، ما يجعل سلامة الغذاء والتخزين واحدة من أولويات الوقاية، خصوصا في ظل الانقطاع المتكرر للكهرباء وغياب التبريد المنتظم".

وتلفت إلى أن "قائمة الأغذية الآمنة نسبيا في مثل هذه الظروف تتضمن المعلبات والمغلفات الجاهزة المنتجة قبل أي حادث، مثل التونة والسردين والفاصوليا والحمص والبازلاء والذرة والجزر والعصائر المعلبة الطبيعية 100%، إذ تمتاز هذه الأصناف بمدة صلاحية طويلة وبكونها مختومة حراريا، فلا تتأثر بالإشعاع الخارجي أو حرارة الصيف. بالإضافة إلى البقوليات الجافة كالعدس والحمص والفول والفاصولياء التي يمكن طهيها عند الحاجة وتبقى صالحة لسنوات في حال حُفظت في أماكن جافة، ولا تمتص الإشعاع بسهولة إن لم تكن مزروعة في منطقة ملوّثة".

 
وتضيف إلى هذه القائمة "الأرز والبرغل والسميد والمعكرونة، وهي مواد تُخزّن لفترات طويلة دون حاجة للتبريد، وتكون نسب التلوث الإشعاعي فيها منخفضة جداً، خصوصاً إذا كانت مستوردة أو محفوظة بطريقة جيدة. كما يمكن استخدام الطحين وخبز "المرقوق" الجاف أو المخبوزات اليابسة، بشرط أن يتم تحضيرها من دقيق موثوق وتوضيبها في ظروف مناسبة، بالإضافة إلى المكسرات النيئة أو المحمصة مثل الجوز واللوز والفستق والكاجو، التي توفّر طاقة عالية ولا تفسد سريعا إذا حُفظت بعيدا عن الرطوبة".

وتستكمل: "الأغذية التي تُعد مفيدة أيضا، التمر والفواكه المجففة مثل الزبيب، المشمش والتين، والتي لا تحتاج إلى تبريد وتشكل بدائل طبيعية للسكر. ويستحسن تناول الحليب المجفف أو المعقم (UHT)، لأنه لا يحتاج إلى تبريد قبل الفتح، ويُعد آمنا شرط أن يكون مصدره موثوقًا به وأن يكون إنتاجه سابقا لوقوع التلوث".

وفي ما يخص الإجراءات العملية التي على المواطن اتخاذها لحماية نفسه غذائيا، تدعو الى "شراء المعلبات وتخزينها مسبقا في أماكن باردة وجافة، والاحتفاظ بكميات كافية من المياه المعبّأة تكفي الأسرة لأسبوعين على الأقل، إضافة إلى استعمال الأغذية القابلة للتلف أولاً وتأجيل صرف المواد الجافة لوقت لاحق. كما ينبغي تجنّب شراء المنتجات الطازجة من مناطق قد تكون تأثرت بالتلوث، والاعتماد على الفحم أو الغاز للطهو كبديل عن الكهرباء في حال الانقطاع الطويل".

أطعمة تحمي الجسم وتقلل امتصاص الإشعاع

وتؤكد أن "بعض التوصيات الغذائية يمكن أن تساهم في تقليل امتصاص الجسم للمواد المشعة أو مساعدته على طردها، لكنها ليست بديلاً عن الإجراءات الطبية الوقائية كتناول اليود غير المشع. من أبرز هذه الارشادات ما يعتمد على التشابه الكيميائي بين بعض النظائر المشعة والعناصر الغذائية، إذ إن الحصول على كميات كافية من هذه العناصر يحدّ من امتصاص النظائر الضارة".

فعلى سبيل المثال، يقل امتصاص اليود-131 عند توفر كميات كافية من اليود الطبيعي في الجسم، كما أن السيزيوم-137 يتنافس مع البوتاسيوم على الامتصاص، والسترونتيوم-90 يتأثر بوجود الكالسيوم وفيتامين D، ما يقي من تراكمه في العظام. وتتوفر هذه العناصر في أغذية معروفة مثل الأسماك، منتجات الألبان، الخضر الورقية، الموز، البيض، والأعشاب البحرية".

 
وتكشف ان "الألياف الغذائية تؤدي دورا في الحد من امتصاص المواد المشعة في الأمعاء وتسريع طرحها خارج الجسم، وتتوافر في الحبوب الكاملة، الفواكه والخضر. كذلك، يحتوي البكتين الموجود في التفاح والحمضيات على خصائص مميزة أثبتت فعاليتها بعد كارثة "تشيرنوبيل" في خفض مستويات السيزيوم لدى الأطفال، وفق بعض الدراسات. وتُعدّ مضادات الأكسدة أيضا عاملاً داعما في حماية الخلايا من الضرر الإشعاعي، ويُستحسن الحصول عليها من مصادر طبيعية كالتوت، الثوم، والخضراوات الداكنة".

وتختم: "أما مكملات مثل الكلوريلا والسبيرولينا، فهي طحالب خضراء تُستخدم في بعض الحالات للمساعدة على التخلص من المعادن الثقيلة، رغم عدم وجود دليل حاسم على فعاليتها ضد التلوث الإشعاعي، إلا أنها تعتبر داعمة في النظام الغذائي الوقائي عند الحاجة".


مقالات عن

الصحة الغذاء