خطاب ترامب أمام الكونغرس: خارطة طريق لعصر أميركي جديد

خطاب ترامب أمام الكونغرس: خارطة طريق لعصر أميركي جديد

image

خطاب ترامب أمام الكونغرس: خارطة طريق لعصر أميركي جديد

العالم امام خيارين لا ثالث لهما

 

اليسا الهاشم

كعادته، فاجأ الرئيس الاميركي دونالد ترامب العالم، لكن هذه المرة لم يكن الأمر مجرد تغريدة نارية أو تصريح مثير، بل ادلى بخطاب تاريخي أمام الكونغرس في 5 آذار الجاري، امتد لنحو مئة دقيقة، حاملاً في طياته تحولات جوهرية في السياسة الأميركية. ما جعل هذا الخطاب استثنائياً لم يكن فقط محتواه الصريح وأهدافه الطموحة، بل توقيته غير المسبوق؛ فالرؤساء عادةً ما يلقون خطابات بهذا العمق في ختام ولاياتهم، لكن ترامب اختار أن يفعل ذلك بعد 44 يوماً فقط من توليه منصبه، ليضع أمام الأميركيين والعالم خريطة طريق لإنجازاته الأولية ورؤيته الاستراتيجية لعصر جديد لأميركا.

لم يكن خطاب ترامب مجرد استعراضٍ لما تحقق خلال أسابيع، بل كان إعلاناً عن مسار أميركي جديد يتجاوز حدود التقليدية، عنوانه الفعل لا الأقوال. فمنذ لحظة صعوده إلى المنصة، بدا واضحاً أن الرجل الذي لا يعترف بالمستحيل بل يضع نصب عينيه إعادة تشكيل النظام العالمي وفق مبدأ "أميركا أولاً"، لا سيما في مجالات الأمن والاقتصاد والتفوق العلمي.

المفاجأة الكبرى جاءت عندما حمل ترامب الأميركيين في رحلة تتجاوز حدود الأرض نحو الفضاء، حيث تعهّد بأن العلم الأميركي سيرتفع فوق المريخ وكواكب أخرى، مشيراً إلى أن "العصر الذهبي لم يبدأ بعد، بل إن القادم أعظم"، وعلى الأميركيين الاستعداد لمرحلة غير مسبوقة من الازدهار والريادة التكنولوجية. بهذه الرؤية، أعلن ترامب استئناف السباق الفضائي بروح جديدة، تجمع بين الطموح العلمي والاستراتيجية الجيوسياسية، إذ لم يعد الفضاء مجرد مجالٍ للأبحاث، بل ساحة لصراع النفوذ بين القوى الكبرى، حيث تسعى أميركا لترسيخ موقعها وسط سباق عالمي محموم تقوده الصين وروسيا.

من جهة اخرى، تركيز ترامب الأساسي كان على القضايا الداخلية، حيث قدّم رؤية اقتصادية تهدف إلى تعزيز قوة أميركا الصناعية والتجارية من خلال سياسات جريئة تشمل الرسوم الجمركية، وتخفيض الضرائب، وإعادة هيكلة الإنفاق الحكومي. دافع بقوة عن فرض الرسوم الجمركية كأداة ضرورية لحماية الصناعات الأميركية من المنافسة غير العادلة، خاصة من الصين ودول أخرى.

وفيما يتعلق بخفض الإنفاق الحكومي، شدد على أنه ليس مجرد إجراء تقشفي، بل إعادة توجيه استراتيجية للموارد نحو القطاعات الحيوية مثل البنية التحتية، والتكنولوجيا، والصناعات المستقبلية، التي من شأنها تعزيز النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل مستدامة. وأوضح أن تقليص الإنفاق على البرامج غير الفعالة سيقلل من العبء المالي على دافعي الضرائب، ويمنح القطاع الخاص مساحة أكبر للابتكار والتنمية، مما يجعل الاقتصاد الأميركي أكثر مرونة وقدرة على المنافسة عالميا. كانت رسالته واضحة: "أميركا لن تكون رهينة لسياسات الماضي، بل ستقود العالم اقتصاديا وفق شروطها الخاصة."

على الأرض، لم يكن خطاب ترامب مجرد استعراض للإنجازات، بل أفعال قلبت الحسابات الدولية، حيث حقق خلال أسابيع ما عجزت عنه إدارة الرئيس السابق جو بايدن طوال سنوات. ففي الملف الأوكراني، فرض ترامب إيقاعاً جديدًا على المشهد السياسي، مجبراً الرئيس فولوديمير زيلينسكي على العودة إلى طاولة المفاوضات تحت شروط أكثر واقعية. والأهم أن هذه التسوية التمهيدية قد تكون مقدمة لاتفاق أوسع مع موسكو، يشمل ملفات الشرق الأوسط وإيران.

وفي إطار إعادة ترتيب الأولويات الدولية، لم يغفل ترامب قضايا جيوسياسية حساسة، حيث ألمح إلى أن مصالح أميركا تمتد إلى ما هو أبعد من حدودها التقليدية، مشيرا إلى أهمية حماية الموارد الاستراتيجية في القطب الشمالي وتحديداً في غرينلاد، وتعزيز النفوذ الأميركي في الممرات البحرية الحيوية والحد من التمدد الصيني لاسيما في بنما، بالإضافة إلى إعادة ضبط العلاقات مع الدول المجاورة لضمان توافقها مع المصالح الأميركية مثل كندا والمكسيك. لم يكن حديثه عن هذه الملفات مجرد تذكير بالوقائع، بل تأكيد على أن واشنطن لا تنتظر الظروف، بل تصنعها وفقاً لرؤيتها.

فعلى النقيض من التفاؤل والقوة التي حملها خطاب ترامب، يقدم خصوم أميركا مزيجاً من الشعارات المكررة والخطابات السوداوية الجوفاء. ففي الوقت الذي يتحدث فيه ترامب عن استكشاف الفضاء والريادة التكنولوجية والانتعاش الاقتصادي، لا يزال خطاب طهران وأذرعها الإقليمية مثلاً، يدور حول المقاومة والحروب العبثية، متجاهلا الأزمات الاقتصادية والانهيار السياسي الذي يضرب المنطقة. فهو خطاب لا يبشّر إلا بالمزيد من العزلة، الفقر، الفوضى، والمواجهات الخاسرة التي لم تحقق شيئاً سوى إضعافها ووكلائها أمام العالم.

وبالتالي لم يعد المشروع الإيراني في المنطقة سوى وهم يتآكل مع مرور الوقت. فبعد الهزيمة العسكرية لحزب الله، وجد الحزب نفسه معزولاً سياسياً، محاصراً اقتصادياً، وعاجزاً عسكرياً. في غزة، تلقت حماس الضربة الأكبر في تاريخها، حيث انهارت بنيتها التحتية العسكرية وفقدت القدرة على فرض نفسها بل هي أخرجت نفسها بالكامل من المشهد المستقبلي للشعب الفلسطيني. في اليمن، تلاشت أوراق الحوثيين مع انحسار دور ولي امرهم الإقليمي. أما في سوريا، فقد انتهى النفوذ الإيراني مع انهيار نظام الأسد وحتى في العراق، بدأ التراجع يظهر جليا، مع تنامي التيارات الرافضة للتبعية الإيرانية، وتصاعد المؤشرات الى مرحلة انكفائها.

لم يعد تراجع إيران مجرد تكهنات، بل هناك تحول إلى واقع ملموس ينعكس في الضربات التي تتلقاها عسكريا، والسياسات التي تعزلها دوليا، ما يجعل مشروعها الإقليمي ونظامها الديني يواجه تحديات غير مسبوقة تهدد بانهياره التام وهو ما حوّله من لاعب اقليمي يصعب تخطيه الى لاعب يحاول البقاء حيّا في الداخل.

في ظل هذه التحولات، لم يعد هناك مجال أمام دول العالم للحياد أو التردد، فإما أن تكون جزءا من النظام الدولي الجديد، أو تجد نفسك خارج حساباته. بهذا المنطق، يمضي الرئيس ترامب في إعادة رسم السياسة الأميركية، واضعاً خطوطاً فاصلة بين القوى التي تنهض وتلك التي تتلاشى، وبين من يملك زمام المبادرة ومن بات مجبراً على مجاراة إيقاع التغيير الذي تقوده الولايات المتحدة على قاعدة "اميركا أولاً" عالمياً وتوازياً "اسرائيل اولاً" شرق اوسطياً.