غياب المكننة أبرز وجوه التخلّف ويتفوّق على انقطاع مياه مراحيض قصر العدل

غياب المكننة أبرز وجوه التخلّف ويتفوّق على انقطاع مياه مراحيض قصر العدل

image

غياب المكننة أبرز وجوه التخلّف ويتفوّق على انقطاع مياه مراحيض قصر العدل
 ليس أمام القاضي النزيه إلا أن «يشنق حالو»!

عمر نشابة - الاخبار
آلاف الموقوفين في النظارات والسجون ينتظرون البت في ملفاتهم، والمثول تحت القوس ليقول لهم القاضي ما إذا كانوا مذنبين أم أبرياء، وليغيّر حياتهم وحياة ذويهم بضربة مطرقة. لكن، يبدو أن مقولة «قاضي الأولاد شنق حالو»، تنطبق على الوضع الحالي في قصور العدل، حيث بات مبدأ المحاكمة العادلة لعبة تخضع لشروط ظرفية وسياسية واقتصادية وطائفية ومذهبية ومناطقية. هواتف القضاة لا تهدأ وتزدحم مداخل مكاتبهم بالزوار. وبينما ينشغل القاضي الشعبوي بالعلاقات العامة ويتغنى بعضويته في صالونات السياسة والمجتمع والاقتصاد والسيجار، يفكّر القاضي النزيه بشنق نفسه ألف مرة في اليوم. أما التفتيش القضائي فيحتار من أين يبدأ، وقد يضيع في غياهب مستودعات الملفات المكدسة، وممرات قصر عدل أشبه بمصلحة تسجيل الآليات، حيث يشتد الاكتظاظ وتنتشر الفوضى. لا تكفي استقلالية القضاء لإصلاحه، بل ما يحتاج إليه القضاء بشكل عاجل وطارئ هو المكننة وتخصيص الأموال لتأمين قاعات وـأقلام ومكاتب للقضاة، وتأمين المياه لحمام «مقطوعة مَيّتو» في «قصر» العدل

تُهمل الدولة اللبنانية من يكُلّف بالفصل في قضايا تتعلّق بحقوق الناس وبأمنهم وسلامتهم، وتُعاملهم مثلما تُعامل عدداً من الموظفين في الإدارات الرسمية.

فبينما يُفترض أن يشكل القضاة سلطة أساسية من السلطات الثلاث التي تحكم الجمهورية اللبنانية، يُعد القاضي في لبنان موظفاً يخضع تارة لتوجيهات وزارة العدل، وطوراً لمصالح الجهات الطائفية أو المذهبية أو المناطقية أو السياسية التي يُحسب من حصتها.

بعض القضاة التحقوا بالسلك القضائي لأنهم أرادوا فعلاً تولي مسؤولية إنصاف الناس استناداً إلى نصّ القانون، وسعوا إلى تطوير أدائهم ومعرفتهم القانونية والفقهية، وعملوا على تهذيب سلوكهم الاجتماعي ليتناسب مع مكانتهم.

لكن مع تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، اصطدم هؤلاء بواقع محبط وخابت آمالهم بقدرة القضاء على تحقيق العدالة.

وباتت تسمية قصر العدل، أي المبنى الذي يضم قاعات المحكمة والأقلام ومكاتب القضاة، تعبّر بدقة عن حالته المزرية فقط إذا كانت بصيغة الجمع: «قصور» العدل.

قصور لا تعود أسبابه الحقيقية إلى غياب استقلالية القضاء فقط، بل إلى إهمال السلطة السياسية الحاكمة، عن سابق تصوّر وتصميم، لمبدأ تفوّق قوّة الحق على الحق بالقوّة. وقد تعددت أوجه ذلك الإهمال عملياً، إذ إن السلطتين الإجرائية والتشريعية تحددان موازنة المؤسسات القضائية واستقلالية القضاء بحسب الدستور.

صحيح أن الدستور يذكر أن «السلطة القضائية تتولّاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها»، لكنه يضيف إلى ذلك «ضمن نظام ينصّ عليه القانون».

وبالتالي على سلطة (التشريعية) أن تحدد استقلالية سلطة أخرى (القضائية). ومن السذاجة التسليم بأن السلطات السياسية يمكن أن تتنازل عن نفوذها وسطوتها على سلطة أخرى، وبأن مجلسي الوزراء أو النواب أو رئاسة الحكومة أو حتى رئاسة الجمهورية يمكن أن تقبل بتفوق سلطة قاضٍ على سلطاتها. ومن السذاجة كذلك التسليم بأن رئيسي الجمهورية والحكومة يمكن أن يعترفا بذلك، بل سيعلنان طبعاً أنهما يصران على استقلالية القضاء.

مع تولي العماد جوزيف عون رئاسة الجمهورية ورفعه في خطاب القسم شعار «إذا أردنا أن نبني وطناً علينا أن نكون جميعاً تحت سقف القانون وتحت سقف القضاء»، تنبغي الإشارة إلى أن تعهّده بإقرار قانون جديد لاستقلالية القضاء لا يمكن أن يحقق وحده إصلاح القضاء الذي علينا أن نكون جميعاً تحت سقفه.

بل يفترض احترام ما ورد في الفقرة «هـ» في مقدمة الدستور التي جاء فيها أن «النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها».

ولا يخفى على أحد اليوم أن التوازن مفقود بين السلطة القضائية والسلطتين الإجرائية والتشريعية.

فالسلطة القضائية لا تبدو سلطة فعلية، لا في تشكيلات القضاة التي تستدعي موافقة وزير العدل قبل إحالتها على مجلس الوزراء، ولا في تحديد ميزانية المحاكم وحاجاتها المادية (علماً أن المحاكم في لبنان تأتي في المرتبة الثانية، بعد وزارة الاتصالات، في قائمة المؤسسات التي تؤمن الدخل المالي لخزينة الدولة)، ولا في إلزامية تنفيذ القرارات والأحكام والمذكرات التي تصدر عنها.


لم يخصص الدستور فصلاً للسلطة القضائية في الباب الثاني الذي يحدد السلطات كما خصص الفصل الثاني لـ«السلطة المشترعة» والفصل الرابع لـ«السلطة الإجرائية».

ولا ترد عبارة «استقلال السلطة القضائية» في الدستور اللبناني بل ورد فيه أن «القضاة مستقلون» (المادة 20). وبالتالي قد تستدعي ضمانة استقلالية القضاء تعديلاً دستورياً.

وبما أن الدستور اللبناني مستوحى أساساً من الدستور الفرنسي، لا بد من الإشارة إلى ما جاء في نص المادة 64 من الدستور الفرنسي: «يتعين على رئيس الجمهورية أن يكون الضامن لاستقلال السلطة القضائية. يساعده في ذلك المجلس الأعلى للقضاء». أما القانون فيقتصر على تحديد «النظام الأساسي للقضاة»، بحسب المادة نفسها.

قضاة في دولة غارقة بالأزمات
جاء في البيان الوزاري الذي تلاه رئيس الحكومة القاضي السابق في محكمة العدل الدولية نواف سلام: «يترتب على نظام العدالة أن يحظى بثقة اللبنانيّين واللبنانيات الكاملة، وثقة العالم أيضاً.

وهو ما يقتضي ترسيخ استقلال القضاء العدلي والإداري والمالي وتحسين أوضاعه وإصلاحه وفقاً لأعلى المعايير الدولية، بما يضمن مناعته حيال التدخلات والضغوط وقيامه بدوره بضمان الحقوق وصَون الحريات العامة ومكافحة الجرائم. وفي هذا الصدد، لا بد من الإسراع في إجراء التعيينات والمناقلات والتشكيلات القضائية والحؤول دون منع عمل المُحققين أو تأخيره ».

لكن ربما لم ينتبه مجلس الوزراء، أو أنه قصد إهمال، معنى «تحسين أوضاعه وإصلاحه»، أو أنه تحجّج بأن البيان لم يحدد ضرورة الإسراع في تأمين الأموال المطلوبة للالتزام بما ورد فيه.

علماً أن وزير العدل محام وأستاذ في القانون وصاحب خبرة واسعة ومعرفة عميقة بما تعاني منه المحاكم والوضع المزري والمعيب لقصور العدل في كل المحافظات.

فعلى بُعد أمتار قليلة من مكتبه، «قصر» للعدل ليست فيه مكاتب كافية للقضاة ما يضطرهم إلى تقاسم المكاتب وتناوب الأيام التي يحضرون خلالها إلى المكاتب.

أما المكاتب المتوافرة، فتعاني من مشكلات، ويسدد بعض القضاة من مالهم الخاص كلفة تحسين أوضاعها. والأسوأ من ذلك أن المياه مقطوعة عن المراحيض في مرفق العدالة. أما المصاعد، فلم تتأمن الأموال اللازمة لصيانتها من المديرية العامة لوزارة العدل، ما استدعى الاستعانة بصندوق تعاضد القضاة.

إهمال القضاة لا يقتصر على ذلك، بل يتعلق أيضاً بتدني رواتبهم بحيث لا تكفي لتسديد بعض حاجاتهم وحاجات أسرهم الأساسية.


ربما ما قصدته الحكومة في بيانها الوزاري بـ«تحسين أوضاعه وإصلاحه» يتعلق بتأمين حاجات القضاة الضرورية الملحّة التي لا يمكن تأجيلها لأنها مرتبطة بتسريع المحاكمات والإجراءات القضائية بهدف تقليص الاكتظاظ الخانق في النظارات والسجون، وبداعي الالتزام بمبدأ المحاكمة العادلة الملزم بموجب الدستور، وبموجب تعهدات لبنان القانونية الدولية.

لكن، حتى اليوم، لم تؤمّن قاعات محاكمة وأقلام كافية للعمل بشكل متواصل على البت بالقضايا وإصدار الأحكام. ولم يبدأ العمل الجدي على توفير حاجة القضاة للوصول السريع إلى المعلومات المتعلقة بالأشخاص الذين يدلون بشهاداتهم أمامهم أو الإجراءات وتفاصيل القضايا المطروحة أمامهم. فلا يمكن للقاضي أن يدخل عبر الحاسوب إلى الملفات، ولا يمكنه حتى الاطلاع الفوري على السجل العدلي لأي شخص، بل عليه طلب ذلك خطياً من قوى الأمن الداخلي وانتظار الجواب عبر البريد.

غياب المكننة عن قصور العدل هو أحد أبرز وجوه التخلّف (وقد يتفوّق على انقطاع المياه في مراحيض قصر العدل). فالمكننة هي السبيل إلى تنظيم الملفات القضائية وتسهيل الاتصال والاطلاع والمراجعة والتدقيق.

وربط مكاتب القضاة بشبكة إلكترونية يسمح بالتواصل السريع وبتوسيع البحث في القوانين والأحكام السابقة. وبما أن «السلطة القضائية» لا تؤمن لكل قاض في مكتبه مجموعة القوانين (وهي لا تؤمن له أو لها حتى «الروب» الذي يفترض ارتداؤه تحت القوس) يمكن إطلاعه عليها ومراجعتها عبر الكمبيوتر.

أما قاعات المحاكمة فليست مجهزة تقنياً ولا توجد فيها حواسيب للاطلاع على الملفات إلكترونياً ولا شاشة لعرض بعض الوقائع المسجلة.

هي مجرد قاعة فيها قوس المحكمة وبعض المقاعد وتحتاج إلى صيانة وترتيب لأنها لا تليق بمكان تتلى فيه خلاصات الأحكام التي تحدد مسار حياة الناس ومصير الأملاك والحريات والصلاحيات والحقوق وتصدر باسم الشعب اللبناني.

بعض القضاة يستخدمون حواسيبهم الخاصة ويسددون كلفة الإنترنت والطبع، علماً أن ذلك قد يشكل خطراً بحيث يمكن أن يدخل أشخاص وشبكات جرمية لديها معرفة تقنية على ملفات القاضي والاطلاع عليها أو محاولة تزويرها وتشويهها. وبالتالي على وزارة العدل تأمين برنامج حماية سرية المعلومات للقضاة لحين انطلاق ورشة مكننة قصور العدل والملفات القضائية بشكل كامل.

فوضى التشكيلات القضائية
كثر الحديث عن التشكيلات القضائية وعن صلاحيات وزير العدل ومرجعية مجلس القضاء الأعلى ودور مجلس الوزراء في المرحلة السابقة. وتبادلت القوى السياسية والطائفية الاتهامات بشأن المحاصصات في تحديد القضاة والمراكز القضائية. وقيل إن ترك قرار تشكيل القضاة لمجلس القضاء وحده هو الحل، بينما رفض وزراء العدل المتعاقبون أن يكونوا مجرد ساعي بريد ينقل ملف التشكيلات من مجلس القضاء إلى مجلس الوزراء من دون أن يكون لهم موقف منها.

لكن المشكلة الأساسية لا تتعلق بكل هذه الخلافات والإجراءات التي تبدو شكلية وسطحية. فالأساس هو تقييم القاضي وليس التعريف عنه أو التعرّف إليه عبر اسمه وطائفته ومذهبه وتوجهه السياسي وانتمائه وحتى سمعته في المجتمع، بل التدقيق في الأحكام الصادرة عنه والقرارات التي اتخذها في معرض عمله كقاض.

فلا تفضيل بين الطوائف المذاهب والأحزاب والمناطق في الإخلاص للعدالة والالتزام بالنزاهة. وقد يكون الحل في اتّباع ما قاله ابن الوردي: «لا تقلْ أصلي وفَصلي أبداً إنما أصلُ الفَتى ما قد حَصَلْ، قيمة الإنسانِ مـا يُحسنُهُ أكثـرَ الإنسـانُ منـهُ أمْ أقَلْ».

ولكن المشكلة تكمن في معرفة «ما قد حصل». إذ لا توجد ملفات وسير ذاتية للقضاة في قصور العدل ولا يمكن جمع نصوص الأحكام الصادرة عن أكثر من 500 قاض في لبنان. فكيف يمكن وضع تشكيلات قضائية دقيقة وعادلة؟

تبرز هنا أيضاً الحاجة الماسة إلى مكننة كامل قطاع العدالة ويستدعي ذلك أولاً التصميم واتخاذ القرار بذلك كما يستدعي تخصيص الأموال اللازمة.

لكن بكل أسف فقد تبين أن العائق الأساسي أمام إصلاح القضاء بشكل جدي عبر مكننة قصور العدل هي السلطة السياسية الحاكمة في لبنان. لماذا؟ لأن القضاء هو أحد القطاعات الحيوية للزبائنية والمحسوبيات.

والحل ليس في إقرار قانون استقلالية القضاء (الذي يتيح بصيغته الحالية تعيين نصف القضاة عن طريق المحاصصة)، بل بورشة إصلاح شاملة تبدأ بالمكننة وتأمين المحاكم والمكاتب للقضاة وتنقل قصور العدل من الظلام الحالي في قاعة الخطى الضائعة إلى نور المحاكمات العادلة تحت القوس.