نزف الصليب: مخطط تهجير المسيحيين من الشرق يتقدّم تحت رماد التفجيرات

نزف الصليب: مخطط تهجير المسيحيين من الشرق يتقدّم تحت رماد التفجيرات

image

نزف الصليب: مخطط تهجير المسيحيين من الشرق يتقدّم تحت رماد التفجيرات
ما جرى في حي الدويلعة مؤشر على نيّة استئناف الضربات
ضد مكوّن يعتبره البعض عائقا أمام مشاريع التطرّف

داود رمال -  "اخبار اليوم"

لم يعد الحديث عن تهجير المسيحيين من المشرق ضربا من المبالغة أو التهويل، بل بات واقعا يتكرّس في الجغرافيا والدم والديموغرافيا، تُغذّيه أدوات سياسية وأمنية متشابكة، تعمل بصمت أحيانا وبضجيج الموت أحيانا أخرى.

هذا المخطط المتدرج، الذي بدأ في فلسطين المحتلة بعد نكبة 1948 عندما طُرد عشرات الآلاف من المسيحيين الفلسطينيين من مدنهم التاريخية مثل حيفا والناصرة والقدس، لم يكن مجرد فعل تهجير عارض، بل كان حجر الأساس في مشروع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي أرادت إفراغ الأرض من تنوّعها الديني والوطني، وتحويل الصراع إلى نزاع ديني صرف بين "يهود ومسلمين" تُمحى فيه هوية المسيحيين كشركاء أصيلين في نسيج الأرض وتاريخها.

لكنّ هذا المخطط لم يتوقّف عند حدود فلسطين. سرعان ما تكفّلت الحروب والفتن المتنقّلة في العراق وسوريا بإكمال المهمة، لا بقرار مباشر من المحتل الإسرائيلي، بل بأدوات ظلامية تكفيرية استثمرت في ضعف الدول وفي خيبات المسيحيين الذين وجدوا أنفسهم يُقتلعون من أرض آبائهم وأجدادهم بصمت عالمي مدوٍّ. في العراق، طُردت العائلات المسيحية من الموصل وسهل نينوى، وقُتل المطارنة والكهنة، وسُبيت النساء، وتحوّلت الكنائس إلى رماد أو ثكنات. وفي سوريا، كان الدمار مضاعفا: فبين نار الإرهاب الأصولي وضربات القوى الكبرى، تلاشت مجتمعات كاملة كانت تشكّل جزءا من ذاكرة سوريا الحضارية، من معلولا إلى القصير إلى محيط حلب وريف دمشق.

غير أن التفجير الإرهابي الأخير الذي استهدف كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس في حي الدويلعة الدمشقي، يعيد دق ناقوس الخطر من جديد، وينبّه إلى أن المسلسل لم يُختتم بعد، وأن ما تبقّى من مسيحيي سوريا لا يزال هدفا متاحا في حسابات من يريد تغيير وجه الشرق. إن استهداف كنيسة في قلب حي سكني مزدحم، وفي توقيت رمزي مريب، ليس فعلا أمنيا معزولا، بل يحمل رسائل سياسية بالغة الخطورة، في مقدمتها أن الاستقرار المسيحي في سوريا ما زال غير محقق، وأن البنية الاجتماعية المسيحية لا تزال في مرمى من يرى فيها تهديدا "لهوية جديدة" يُراد فرضها على المنطقة.

وما يزيد من سوداوية المشهد هو أن هذه النيران لا تبقى محصورة حيث اندلعت. فلبنان، بما يمثّله من آخر فسيفساء مسيحية – إسلامية متفاعلة في المشرق، معرض بدوره لتداعيات هذا التفجير، لا سيما مع عودة ارتفاع وتيرة الخطاب الطائفي تحت عنوان الحقوق والغبن، وتنامي المشاعر العدائية ضد التعددية، وانتشار شبكات التهريب والتسلح غير الشرعي. والمفارقة أن لبنان، الذي شكّل تاريخيا ملاذا للمضطهدين من كل الطوائف، بات هو الآخر مهددا بتهجير صامت لمسيحييه، إما تحت ضغط الأزمة الاقتصادية الطاحنة، أو من خلال سيناريوهات تفجير أمني تعيد تكرار تجربة العراق وسوريا، وتستدرج المسيحيين إلى الهجرة الجماعية القسرية.

ولعل ما يُقلق أكثر هو عدم ظهور خطة من الإجراءات الوقائية في مواجهة هذا النوع من المخاطر. إذ لا يكفي الاستنكار ولا الخطابات التضامنية العابرة، بل المطلوب اليوم تحرك استثنائي يتجاوز الأطر المحلية، باتجاه تفعيل تعاون أمني جاد بين الأجهزة اللبنانية والسورية، ورفع مستوى التنسيق مع الدول العربية المعنية، لا سيما تلك التي تملك قدرة استخبارية وعسكرية على تعقّب خلايا الإرهاب العابر للحدود. كما لا بد من تفعيل التعاون الدولي، لا فقط لحماية دور العبادة، بل لحماية الوجود المسيحي في ذاته كقيمة مضافة للمنطقة، وكركن من أركان التنوع الحضاري الذي بات مهددا بالفناء.

إن ما جرى في حي الدويلعة ليس مجرد جريمة إضافية في مسلسل الدم السوري، بل هو مؤشر على نيّة استئناف الضربات ضد مكوّن يعتبره البعض عائقا أمام مشاريع التطرّف والانغلاق. وإذا لم تُواجه هذه المؤشرات برؤية شاملة تجمع بين الأمن والسياسة والإنماء والهوية، فإن الشرق الذي عرف المسيحية قبل أن تعرف أوروبا أنوارها، قد يستيقظ ذات يوم وقد أُفرغ من أهله، ليبقى صليبه مصلوبا على جدران مهجورة، تصفر فيها الريح بدل الترانيم.