قطار الازدهار انطلق... 20 مليون نسمة بلا طعام لتصنيع دبابة واحدة...
التكنولوجيا ستُصبح قادرة على فهم وتطوير ذاتها من دون الحاجة الى بشر
أنطون الفتى - وكالة "أخبار اليوم"
يبدو بوضوح يومي أن العالم لن يتّسع للجميع، وأنه قد يتوجب علينا أن نتقبّل فكرة، أن القرار الذي سيُتَّخَذ بمحونا وملايين البشر من على وجه الأرض، بكبسة زرّ، قد لا يكون مُستبعَداً أبداً، وأنه قد لا يكون نظرية مؤامرة.
يخفّض قيمته...
فهناك الكثير من الأحاديث عن عالم جديد، بفرص جديدة. ولكن هذا العالم لن يكون للجميع، وفق إشارات كثيرة وأكيدة. ومن أبرز المعطيات التي تُفيد بذلك، هو هذا التناقُض العالمي الواضح بين الإيحاء بأن المسؤولين والرؤساء في كل البلدان يعملون لخفض نِسَب التضخُّم، ولزيادة فرص العمل، ولتحسين ظروف الحياة، في وقت يعمل فيه الجميع بكدّ وجدّ، على الغوص في عالم من تطوّر تكنولوجي يُقيل الإنسان من كل أنواع أنشطته تقريباً، ويخفّض قيمته الى أقلّ من "إجر كرسي" ربما.
نذكر في هذا الإطار، ما أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخراً عن أن سياسة الرسوم الجمركية التي يتّبعها تهدف الى تعزيز التصنيع المحلّي للدبابات والسفن والعتاد العسكري والمنتجات التكنولوجية، وليس للأحذية الرياضية والقمصان والجوارب، مؤكداً أننا نريد التصنيع بالذكاء الاصطناعي، وأننا نتطلّع الى تصنيع الرقائق وأجهزة الكومبيوتر، متجاهلاً الآثار السلبية لرسومه الجمركية على بعض أنواع الصناعات الأميركية، كما على استيراد بعض أنواع الحاجات اليومية الأخرى، بالنّسبة للمواطن محدود الدخل.
من... وكيف؟
في الحقيقة، لم يتجاهل ترامب بكلامه هذا، الشرائح الاجتماعية منخفضة الدخل فقط، بل شرّع الأبواب لنقاش بزمن جديد، وخليقة جديدة. فأن يقول لك رئيس بلدك مثلاً، إنه يفضّل تصنيع السفن والدبابات والرقائق... على الأحذية الرياضية، والألبسة... مثلاً، فهذا يماثل من يقول إن لا لزوم لك أنت المواطن الذي لا يستعمل الرقائق والدبابات والسفن... في بلدي، ولا لزوم لحاجاتك من الألبسة، والأحذية، وذلك مقابل التكنولوجيا فائقة التطور، والذكاء الاصطناعي.
وهو عندما يميّز بين أنواع الصناعات، ويصنّفها بين مهمّة وأقلّ أهمية، يكون يضع ملايين العمال والبشر الذين يعملون في مجالات الصناعات الخفيفة، والذين يستهلكون سلعها، بحالة مُبهَمَة، وبمستقبل معيشي وحياتي مجهول، ليس على مستوى الأسعار فقط، بل على صعيد الوجود كلّه.
وبما أن مصير ملايين الأميركيين بات مبهماً عملياً، في أقوى أو في واحدة من أقوى دول العالم، بعد كلام ترامب، فكيف يمكن لأحوال ولمستقبل الملايين غيرهم أن يكون، في بلدان أخرى؟ ومن يهتمّ بمن؟
استهلاك أقلّ
وبالتالي، من سيهتمّ لو سمع مثلاً، أن 5 ملايين نسمة في الجمهورية هذه، أو في تلك، باتوا من دون طعام وشراب وثياب، و... بسبب التركيز على صناعة الدبابات، أو الغواصات النووية مثلاً؟ والى أي مدى لن يُعتَبَر هذا الواقع المرير ضرورة، تحت ستار التوغُّل في عوالم التطور والازدهار؟
في الحقيقة، العالم أمام مفترق طُرُق كبير حالياً. والحقيقة، هي أنه يتّجه الى مساحة تبدو صعبة جداً.
طبعاً، صناعة الأحذية والثياب... وغيرها من الصناعات لن تتوقف أبداً، خلال وقت قريب على الأقلّ. ولكن بالتكنولوجيات الجديدة، وبواسطة الذكاء الاصطناعي، سيُصبح الروبوت خيّاطاً وصانعاً... بكميات أكبر، وبمدى زمني أقلّ. ولكن لأي سوق، طالما أن الوجود الجديد، لعالم تكنولوجي جديد، لن يتّسع لملايين ولمليارات البشر، مع مرور الزمن؟ وبالتالي، إذا لم يَعُد هناك من مكان لمليارات الناس على الأرض، فهذا يعني أن السوق الاستهلاكي سينخفض، ما سيرفع الحاجة لتقليص التصنيع بالتكنولوجيات المتطورة، هو نفسه أيضاً.
قواعد جديدة
نحن ندخل في عالم جديد ومختلف عن الماضي كلياً. عالم لا مجال ليزداد البشر فيه مستقبلاً، من 8 مليارات نسمة، الى 10 أو 12... ملياراً، في وقت أبْعَد، بل عالم سينخفض فيه الناس من 8 مليارات الى 6 و4... مليارات نسمة، والى ما هو أقلّ من ذلك بكثير ربما، في وقت لاحق. وهذه ليست نظرية مؤامرة.
فالتطور التكنولوجي بات كبيراً جداً، وهو لا يزال مصنوعاً ومضبوطاً على يد الإنسان الآن. ولكنه سيصل الى اليوم الذي ستُصبح فيه التكنولوجيا قادرة على فهم وتطوير ذاتها من دون الحاجة الى يد بشر. وهنا ستبدأ خليقة جديدة، وفق قواعد جديدة.
عبثية الازدهار
فقيمة الإنسان الآن، تكمن بمدى قدرته على الدخول في اللعبة التكنولوجية. ولكننا سنصل الى اليوم الذي ستُصبح فيه التكنولوجيا قادرة على تقييم من تعتبر أنه يستحق البقاء في الوجود، أي ضمن وجودها هي، ومن لا يستحق ذلك، من تلقاء ذاتها.
الإنسان خادم للتكنولوجيا. هذا أبرز ما يمكن للعالم الجديد أن يَعِد البشر به. وكما يمكننا أن نجد الآن، في البلدان التي تحوي 120 مليون نسمة، 124 مليوناً ونصف، يخدمون 500 ألف يؤلّفون السلطة ومتفرعاتها وقطاعاتها وتجارها... فهكذا تماماً، في عصر التكنولوجيا الجديدة الآتي، سيكون هناك عشرات الآلاف من البشر ربما، فقط، الذين سيخدمون الروبوت والتكنولوجيا، والذين سيسترضونها حتى لا تلفظهم الى عدم، هو بمستوى عبثية الازدهار والفرص والتطور... الذي تفرش كل دول العالم سجاداته الحمراء أمام شعوبها حالياً.